بقلم: مفيد فوزي |
أوثر أن تنعتق هذه الخبرات الحياتية المتراكمة علي سن قلمي بدلا من أن تظل حبيسة صدري.. راقدة فوق الشرايين والأوردة.. نائمة فوق الجفون.. ولا أظن أن هذه الخبرات قد سلحتني بفهم الحياة, فمازلت أندهش وتتراقص أمامي علامات الاستفهام والتعجب, وفي بعض الأحيان أشعر بأن ثمرات العمر من الخبرة.. قضت علي البراءة وصرت أقترب أكثر من كيمياء البشر الداخلية وأتنبأ برد الفعل, وكأني أري المعادلات النفسية من خلف زجاج يكشف بوضوح السلوك البشري فلا أراه صادما, في عمر مبكر, كانت حوارات النفس الداخلية قليلة, وكلما مضي قطار العمر, احتلت هذه الحوارات مساحة وصار صمتي ثرثارا, كثيرا ما تساءلت: هل المعرفة بالناس, ظروفهم, أخلاقهم, طموحاتهم, نزواتهم, أطماعهم تبصرني وتقيني المطبات والعثرات؟ الاجابة التي استنبطتها هي اني وغيري نكرر ربما نفس الأخطاء, فليست خبرات العمر تعطيني حصانة من الفيروسات البشرية, واكتشفت أنه لايمكن تعميم صفات البشر في هذا الكون, فكل انسان حالة ودنيا خاصة, تحكمه نشأة وطفولة وتربية وجواب ألم ومدرسة وشارع وصداقات وامرأة ساقطة وقريب مدمن, ومن هنا فإن احكامنا علي الناس ليست يقينية وبالتالي ليست منصفة وأغلبها انفعالات وقتية أشبه ببخار مكتوم, أكاد أشعر وأنا أقول هذا الكلام, أني اتبني المذهب( التبريري) الذي يبرر تصرفات الناس وفقا لظروفهم النفسية ومنطلقات تفكيرهم, وربما كان مبدأ التبرير مريحا في الحياة, ولكن التبرير والغفران قيم انبياء ونحن لسنا انبياء, ولو كانت التبرير فلسفة تسود العالم, لما كان هناك مجازر ولا مجاعات. هل من المفترض ـ في هذه الحياة ـ أن أحسن ظنا بالآخر؟ لو فعلت ذلك لشقيت بحسن ظني, هل من المفترض أن أعامل الآخر بحذر وأراقبه جيدا؟ لو فعلت ذلك لأصبحت ضابط أمن دولة, هل من المفترض الثقة المطلقة في الآخر؟ لو فعلت ذلك لكانت صدمتي قاتلة اذا لعب الغدر دوره, هل من المفترض البعد عن الناس وعدم مخالطتهم( واقفل بابك عليك) كما كانت تقول أمي, لو فعلت ذلك لانعزلت وحدي في جزيرة, منفيا بإرادتي. إن الحياة ـ بطبيعتها, مخالطة والتحام واشتباك, ومشكلاتها ومعوقاتها جزء من نسيجها إلا اذا اختار أحد حياة الرهبان والنساك في الجبال, فهذا منطق هروبي وأرفض هذه الرهبنة السلبية. في الحياة, الصدام وارد بين الناس والمجتمع وبين الناس أنفسهم والآخرين والسبب الأعمق للصدام هو اختلاف الثقافات ونمط الحياة السياسية والتكالب علي الرزق, من هنا تتوحش الجريمة وتظهر علي السطح جرائم الأرحام, ويصبح القتل لاتفه الأسباب واضعين في الاعتبار ضعف الروحانيات برغم المد الديني الذي يبدو في الأفق غزيرا في الشكل والمظهر دون المضمون, زمان كان الدين سياجا والتدين وسطيا ومعتدلا وكان الناس يزنون بعقولهم حجم العيب, ذلك أن الدين لم يكن مظهرا, وكان علاقة لها خصوصيتها بين الانسان وربه, في بعض الأحيان أري أن الفروق الطبقية وراء هذا التمزق, فالفيلل ظهرها عشش, وكم ـ عبر سطور سابقة ـ نبهت الي خطورة هذا التفاوت, ففي عيون العشش تربص وحقد مكتوم بين الضلوع, وجرسونات الفنادق الكبيرة من طبقة الغلابة يعودون الي بيوتهم آخر الليل ويحكون عن بذخ الأفراح والليالي الملاح. إن التكيف ضرورة مع المجتمع تجنبا للصدام والصراع, وكنت أظن أن الكثافة السكانية وراء هذا التناحر, ولكني اكتشفت أن الصين بلد المليار انسان نجحت في أن يصل الطعام لكل فم, والعمل لكل يد, انني أحيانا اتعجب من ثروتنا في العقول العاجزة عن ايجاد وسيلة للحياة السهلة في الخدمات والمعقولة في توزيع الثروة, فتأتي معزوفة العمل والانتاج والتنمية بلا نشاز ولا اضرابات ولا اعتصامات إلا أن الظلم يستعصي علي الوصول لشاطيء العدل, ان الحكومات المتعاقبة رصدت( الأزمة) واجتهدت في( الحل) ولكن الحلول جاءت نمطية, مشكلة الجهاز التنفيذي في مصر, انه يتجمل أمام القيادة السياسية بأرقام ومعلومات مضروبة يكشفها فيما بعد( جهاز الملط) الذي ـ بضمير ـ يعري الخسائر والمخالفات للرأي العام, وكلما جلست مع عقلاء, شرحوا لي بالتفصيل الممل حلول مشكلات مصر التي جعلت الحياة عقوبة علي أرضها, ولكني أهز رأسي مدركا أن الكلام المرسل ليس عليه جمارك كما يقولون, وان التجربة المعملية هي الفيصل, ان أي وزير من رجال الأعمال لم يعد ذلك الجريء ـ جرأة ابن القطاع الخاص ـ الذي صار مقيدا بالقوانين, مكلبشا باللوائح, خائفا في أعماقه من الرقابة الادارية, الحياة علي أرض مصر( عقوبة) لأغلبية ساحقة وليس هذا اختراعا, فقد ادرك رئيس مصر مبارك هذه الحقيقة وقرر( الانحياز) لهذه الأغلبية, والحياة علي أرض مصر( نعمة) لفئة صغيرة تكبر مع الأيام وعندما تجاورهم في سهراتهم, فلن تسمع شيئا عن معاناة الأغلبية. لقد أتقن الاعلام الخاص والمعارض فقه اليأس فشحن الناس ضد بعضهم وضد الحكومة.. ضد النظام, الشحنة عالية الفولت لأنها تتعلق بالدين وبالصحة وبالأولاد وبالرزق, فاسودت الحياة أمامهم واستباحوا الحرام واستسهلوا الجريمة, والاعلام الرسمي متشنج تنقصه المهارة المهنية ليؤثر, وهذه أكبر مشكلاته في قلة التأثير. تلك خبرات العمر وهي ليست للادخار, انها حبر القلم الذي أكتب به ما أعتقد, بأمانة ودون أي حسابات.. اعتبروه هذيانا فوق الورق, لكنه هذيان العشق لتراب وطن. نقلا عن الأهرام |
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع |
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا |
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا |
تقييم الموضوع: | الأصوات المشاركة فى التقييم: ٠ صوت | عدد التعليقات: ٠ تعليق |