خبرات حياتية ليست للإدخار‏!‏

بقلم: مفيد فوزي

أوثر أن تنعتق هذه الخبرات الحياتية المتراكمة علي سن قلمي بدلا من أن تظل حبيسة صدري‏..‏ راقدة فوق الشرايين والأوردة‏..‏ نائمة فوق الجفون‏..‏ ولا أظن أن هذه الخبرات قد سلحتني بفهم الحياة‏,‏ فمازلت أندهش وتتراقص أمامي علامات الاستفهام والتعجب‏,‏ وفي بعض الأحيان أشعر بأن ثمرات العمر من الخبرة‏..‏ قضت علي البراءة وصرت أقترب أكثر من كيمياء البشر الداخلية وأتنبأ برد الفعل‏,‏ وكأني أري المعادلات النفسية من خلف زجاج يكشف بوضوح السلوك البشري فلا أراه صادما‏,‏ في عمر مبكر‏,‏ كانت حوارات النفس الداخلية قليلة‏,‏ وكلما مضي قطار العمر‏,‏ احتلت هذه الحوارات مساحة وصار صمتي ثرثارا‏,‏ كثيرا ما تساءلت‏:‏ هل المعرفة بالناس‏,‏ ظروفهم‏,‏ أخلاقهم‏,‏ طموحاتهم‏,‏ نزواتهم‏,‏ أطماعهم تبصرني وتقيني المطبات والعثرات؟ الاجابة التي استنبطتها هي اني وغيري نكرر ربما نفس الأخطاء‏,‏

فليست خبرات العمر تعطيني حصانة من الفيروسات البشرية‏,‏ واكتشفت أنه لايمكن تعميم صفات البشر في هذا الكون‏,‏ فكل انسان حالة ودنيا خاصة‏,‏ تحكمه نشأة وطفولة وتربية وجواب ألم ومدرسة وشارع وصداقات وامرأة ساقطة وقريب مدمن‏,‏ ومن هنا فإن احكامنا علي الناس ليست يقينية وبالتالي ليست منصفة وأغلبها انفعالات وقتية أشبه ببخار مكتوم‏,‏ أكاد أشعر وأنا أقول هذا الكلام‏,‏ أني اتبني المذهب‏(‏ التبريري‏)‏ الذي يبرر تصرفات الناس وفقا لظروفهم النفسية ومنطلقات تفكيرهم‏,‏ وربما كان مبدأ التبرير مريحا في الحياة‏,‏ ولكن التبرير والغفران قيم انبياء ونحن لسنا انبياء‏,‏ ولو كانت التبرير فلسفة تسود العالم‏,‏ لما كان هناك مجازر ولا مجاعات‏.‏

هل من المفترض ـ في هذه الحياة ـ أن أحسن ظنا بالآخر؟ لو فعلت ذلك لشقيت بحسن ظني‏,‏ هل من المفترض أن أعامل الآخر بحذر وأراقبه جيدا؟ لو فعلت ذلك لأصبحت ضابط أمن دولة‏,‏ هل من المفترض الثقة المطلقة في الآخر؟ لو فعلت ذلك لكانت صدمتي قاتلة اذا لعب الغدر دوره‏,‏ هل من المفترض البعد عن الناس وعدم مخالطتهم‏(‏ واقفل بابك عليك‏)‏ كما كانت تقول أمي‏,‏ لو فعلت ذلك لانعزلت وحدي في جزيرة‏,‏ منفيا بإرادتي‏.‏

إن الحياة ـ بطبيعتها‏,‏ مخالطة والتحام واشتباك‏,‏ ومشكلاتها ومعوقاتها جزء من نسيجها إلا اذا اختار أحد حياة الرهبان والنساك في الجبال‏,‏ فهذا منطق هروبي وأرفض هذه الرهبنة السلبية‏.‏

في الحياة‏,‏ الصدام وارد بين الناس والمجتمع وبين الناس أنفسهم والآخرين والسبب الأعمق للصدام هو اختلاف الثقافات ونمط الحياة السياسية والتكالب علي الرزق‏,‏ من هنا تتوحش الجريمة وتظهر علي السطح جرائم الأرحام‏,‏ ويصبح القتل لاتفه الأسباب واضعين في الاعتبار ضعف الروحانيات برغم المد الديني الذي يبدو في الأفق غزيرا في الشكل والمظهر دون المضمون‏,‏ زمان كان الدين سياجا والتدين وسطيا ومعتدلا وكان الناس يزنون بعقولهم حجم العيب‏,‏ ذلك أن الدين لم يكن مظهرا‏,‏ وكان علاقة لها خصوصيتها بين الانسان وربه‏,‏ في بعض الأحيان أري أن الفروق الطبقية وراء هذا التمزق‏,‏ فالفيلل ظهرها عشش‏,‏ وكم ـ عبر سطور سابقة ـ نبهت الي خطورة هذا التفاوت‏,‏ ففي عيون العشش تربص وحقد مكتوم بين الضلوع‏,‏ وجرسونات الفنادق الكبيرة من طبقة الغلابة يعودون الي بيوتهم آخر الليل ويحكون عن بذخ الأفراح والليالي الملاح‏.‏

إن التكيف ضرورة مع المجتمع تجنبا للصدام والصراع‏,‏ وكنت أظن أن الكثافة السكانية وراء هذا التناحر‏,‏ ولكني اكتشفت أن الصين بلد المليار انسان نجحت في أن يصل الطعام لكل فم‏,‏ والعمل لكل يد‏,‏ انني أحيانا اتعجب من ثروتنا في العقول العاجزة عن ايجاد وسيلة للحياة السهلة في الخدمات والمعقولة في توزيع الثروة‏,‏ فتأتي معزوفة العمل والانتاج والتنمية بلا نشاز ولا اضرابات ولا اعتصامات إلا أن الظلم يستعصي علي الوصول لشاطيء العدل‏,‏ ان الحكومات المتعاقبة رصدت‏(‏ الأزمة‏)‏ واجتهدت في‏(‏ الحل‏)‏ ولكن الحلول جاءت نمطية‏,‏ مشكلة الجهاز التنفيذي في مصر‏,‏

انه يتجمل أمام القيادة السياسية بأرقام ومعلومات مضروبة يكشفها فيما بعد‏(‏ جهاز الملط‏)‏ الذي ـ بضمير ـ يعري الخسائر والمخالفات للرأي العام‏,‏ وكلما جلست مع عقلاء‏,‏ شرحوا لي بالتفصيل الممل حلول مشكلات مصر التي جعلت الحياة عقوبة علي أرضها‏,‏ ولكني أهز رأسي مدركا أن الكلام المرسل ليس عليه جمارك كما يقولون‏,‏ وان التجربة المعملية هي الفيصل‏,‏ ان أي وزير من رجال الأعمال لم يعد ذلك الجريء ـ جرأة ابن القطاع الخاص ـ الذي صار مقيدا بالقوانين‏,‏ مكلبشا باللوائح‏,‏ خائفا في أعماقه من الرقابة الادارية‏,

ولهذا فهو يلجأ الي الحلول المضمونة وان طال الزمن و‏(‏مدعوقة المشكلات التي توديه للسجن كحالة الدكتور الغريب وزير مالية مصر يوما ما‏).‏

الحياة علي أرض مصر‏(‏ عقوبة‏)‏ لأغلبية ساحقة وليس هذا اختراعا‏,‏ فقد ادرك رئيس مصر مبارك هذه الحقيقة وقرر‏(‏ الانحياز‏)‏ لهذه الأغلبية‏,‏ والحياة علي أرض مصر‏(‏ نعمة‏)‏ لفئة صغيرة تكبر مع الأيام وعندما تجاورهم في سهراتهم‏,‏ فلن تسمع شيئا عن معاناة الأغلبية‏.‏

لقد أتقن الاعلام الخاص والمعارض فقه اليأس فشحن الناس ضد بعضهم وضد الحكومة‏..‏ ضد النظام‏,‏ الشحنة عالية الفولت لأنها تتعلق بالدين وبالصحة وبالأولاد وبالرزق‏,‏ فاسودت الحياة أمامهم واستباحوا الحرام واستسهلوا الجريمة‏,‏ والاعلام الرسمي متشنج تنقصه المهارة المهنية ليؤثر‏,‏ وهذه أكبر مشكلاته في قلة التأثير‏.‏

تلك خبرات العمر وهي ليست للادخار‏,‏ انها حبر القلم الذي أكتب به ما أعتقد‏,‏ بأمانة ودون أي حسابات‏..‏ اعتبروه هذيانا فوق الورق‏,‏ لكنه هذيان العشق لتراب وطن‏.‏

نقلا عن الأهرام

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع