CET 09:26:28 - 10/10/2009

مقالات مختارة

بقلم: اسامه انور عكاشة

قلت لصاحبي‮: ‬لن أعاود الكتابة فيما اعتدته وما اعتاده مني‮ ‬قرائي‮.. ‬لن أكتب في‮ ‬مواجع الناس والمشاكل التي‮ ‬تأخذ بخناقهم ولا في‮ ‬فواجع السياسة وموجات خيبات الآمال المتتالية‮.. ‬لا ولن أكتب في‮ ‬المعارك اليومية والتي‮ ‬تبدو وكأنها حديث نميمة علي مصاطب البيوت وربات البيوت‮.‬ رمقني‮ ‬صديقي‮ ‬بفضول وسأل‮: ‬وفيم تريد إذاً‮ ‬أن تكتب؟ سأكتب‮ ‬يا صاحبي‮ ‬عن قطرات الماء في‮ ‬زمن الهجير وعن نسائم الربيع في‮ ‬عز القيظ‮.. ‬سأكتب عن عالم عشناه شباباً‮ ‬ورجالاً‮ ‬ونشله الزمن منا فبتنا نتلفت ضائعين نتلمس منه ولو بعضاً‮ ‬من آثاره وبقاياه فلا نجد في‮ ‬الحنايا إلا اصداء المعزوفات القديمة ورنين الاوتار المقطوعة‮! ‬أريد أن استعيد تلك المسروقات وانتزعها انتزاعاً‮ ‬من قلب حاضر جاف متحجر لم‮ ‬يعد قادراً‮ ‬علي فهم الحروف والكلمات في‮ ‬قصيدة شعر كما صُمت آذانه عن سماع معزوفة او مغناة تخرج من القلب لترهف الحس وتدغدغ‮ ‬المشاعر‮..

‬أريد أن أري الزهرة تنبت من قلب الصخر فإن لم أرها في‮ ‬صحراء الواقع الخشن فسأصنع لها صورة من ذكرياتي‮ ‬أعلقها علي حائط خيالي‮.‬ أريد أن استعيد‮ ‬يوماً‮ ‬من صباي‮ ‬أقف فيه بشرفة منزلنا القديم في‮ ‬بلدتنا البعيدة امسك في‮ ‬يدي‮ ‬برواية لمحمود تيمور أو‮ ‬يوسف السباعي‮ ‬لأريها عبر الشارع المقابل لبنت الجيران التي‮ ‬تقف في‮ ‬النافذة البعيدة تعبث بخصلات شعرها وتتظاهر بأنها لا تراني‮ ‬ولكنها ترفع مؤشر الصوت في‮ ‬المذياع لتتهادي‮ ‬اليَّ‮ ‬كلمات اغنية لنجاة الصغيرة‮ "‬أسهر وأنشغل أنا‮.. ‬وانت ولا انت هنا‮.. ‬شاغلني‮ ‬معاك وباستناك شوف كم سنة‮".‬ وأتذكر كيف كنت اتبعها من مدرستها الي منزلها‮ "‬يوماتي‮" ‬دون أن افكر لحظة في‮ ‬أن اقول لها كلمة ويكفيني‮ ‬أن انال منها تلك النظرة في‮ ‬عين ترمش بارتباك‮! ‬وتلك الليالي‮ ‬البيضاء التي‮ ‬مرت في‮ ‬ايام امتحانات‮ "‬الثانوي‮".. ‬الكتاب مفتوح علي حجري‮ ‬والعينان شاخص في‮ ‬سماء ليلية مرصعة بالنجوم ومن راديو بعيد تأتي‮ ‬مقاطع من ام كلثوم‮ "‬يا ظالمني‮ ‬وقلبي‮ ‬من رضا ظالمي‮ ‬محروم‮" ‬والمشاعر تفيض حتي‮ ‬الاختناق بالدمع وكيف كان طعم الدمع المخنوق معذباً‮ ‬كقطرات الندي في‮ ‬الفجر المطل‮.‬ ويوم آخر أتسوله من شبابي‮.. ‬

في‮ ‬زمن العنفوان ونضوج كل المشاعر علي نار الحكايات الموعودة والبحث عن فتاة الاحلام التي‮ ‬قد تمضي‮ ‬اعز السنوات وأنت تبحث عنها في كل مكان وتسأل موج البحر وفيروز الشطآن علي رأي عمنا نزار في أنشودته الوداعية الشهيرة أو قد تلتقي بها فجأة علي‮ ‬غير موعد وفي‮ ‬غير أوان وتسفر شرارة الالتقاء أو الارتطام عن قصة متعجلة مفعمة بأوار اللهفة والبغتة والإغماءة،‮ ‬وتجد نفسك طريح‮ »‬الغرام‮« ‬في حدوتة قد تنتهي مسيلة لدموع كثيرة،‮ ‬وربما قطرات من دم تنزف في الأعماق ونلجأ وقد تحتم أن تنتهي كل الحواديت بنفس النهاية‮ »‬وهي نهاية طبيعية،‮ ‬بل وضرورية،‮ ‬لابد أن ينتهي بها الحب الأول‮«.. ‬نلجأ إلي مصحة جرحي الحب في مقهي‮ »‬أم كلثوم‮« ‬ذي‮ ‬الثلاثة طوابق في ميدان التوفيقية،‮ ‬حيث ننفرد بأنفسنا في الطابق الثالث المخصص للسميعة و»الحبيبة‮« ‬فقط وحيث يسود الصمت التام إلا من زفرات الألم‮.. ‬فقط صوت أم كلثوم يدفع بالدمع إلي المآقي‮: »‬هجرتك يمكن أنسي‮ ‬هواك وأودع قلبك القاسي لقيت روحي في عز جفاك بفكر فيك وأنا ناس‮« ‬و‮...»‬سهران لوحدي أناجي طيفك الساري‮.. ‬هايم في وجدي ودمعي علي الخدود جاري‮«.‬ هو نفس أيام الصوت الذي صاحبنا شباباً‮ ‬ورجالاً‮ ‬واحتل مواطن الحس تحت جلودنا‮..

‬صوت عبدالحليم حافظ يغرد‮: »‬يا حبيبي عشنا أجمل عمر في عينيك الجميلة‮.. ‬أوصل الأيام مع الأحلام في‮ ‬غنوة شوق طويلة للعيون السمر‮«.. ‬الله عليك يا عم مرسي جميل عزيز‮.. ‬الله عليك يا عم مأمون الشناوي،‮.. ‬ويا عم علي مهدي‮.. »‬فوق الشوك مشاني زماني وقاللي تعالي نروح للحب‮.. ‬بعد سنين قاللي ارجع تاني هاتعيش فيه مجروح القلب‮«.‬ ومن‮ »‬نوتة‮« ‬عازفي المشاعر هؤلاء يقودنا السلم تلقائياً‮ ‬إلي‮ »‬نوتة‮« ‬الرحبانية وفيروز،‮ ‬حيث نكتشف مع جارة القمر كل مناهل ومنابع المشاعر والأحاسيس التي ترفل في حلل المساء وزنابق الحقل وأغاريد الحساسين والقبرة والزرزور وكل جوقة المواكب في مواسم العصافير‮.‬ ‮»‬حبيتك تانسيت النوم يا خوفي تنساني حابسني برات النوم تاركني سهرانة‮« »‬وسنرجع‮ ‬يوما حدثني‮ ‬العندليب بأن البلابل لما تزل هناك تعيش بأشعارنا‮« ‬ومن فوار‮ »‬انطلياس‮« ‬لجداول الجبل أدمنا أهازيج فيروز وصحبناها ولن نزل نصحبها إلي الآن‮.‬ ‮.. ‬وعرفنا كيف نلتقي في رجفة اليد حين تتلامس الأصابع وفي لمعة العين في انتظار الموعد والخفقة التي تزلزل الصدر حين يتم اللقاء أوقفني صاحبي مقاطعاً‮ ‬وكأنه يسخر‮: ‬كأنك ولم يتبق لديك‮ ‬غير اجترار الذكريات في محراب الماضي‮.‬ وأجبته جاداً‮ ‬وبعيداً‮ ‬عن ألاعيب الكلام‮:‬ ‮- ‬لا وحياتك‮ ‬يا صاحبي‮ ‬فأنا كعاشق النيل الذي‮ ‬لابد أن‮ ‬يعود إليه‮ "‬حين تمتزج خبرة السنوات بنضوج القلب‮ - ‬وبعذاباته ايضا‮ - ‬يظل التوق منسابا كالفيض علي ضفاف الروح وتظل تظمأ لمشاعر الحنان وتصبو لهاتين الورقتين الموردتين بلون الكرز تطفوان علي سطح كأس مترع بمذاق الشهد وطعم الدموع‮.. ‬ورقتين حين تلثمهما فقد أسر إليك بحل اللغز وفك الطلسم‮..‬ أفقت الي صاحبي‮ ‬يحملق في‮ ‬وجهي‮ ‬وتتراقص في‮ ‬عينيه وعلي لسانه تلك الأسئلة التي‮ ‬تحاول دوماً‮ ‬ان تفرض خشونة الواقع‮:‬ ‮- ‬أهو الهروب؟ أم اليأس؟ أم النزوة؟ ‮- ‬لن أدري‮ ‬ولن تدري‮ ‬فربما كان هذا كله أو لم‮ ‬يكن شيئا منه‮.‬

نقلا عن الوفد

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٠ صوت عدد التعليقات: ١ تعليق

خيارات

فهرس القسم
اطبع الصفحة
ارسل لصديق
اضف للمفضلة

جديد الموقع