الرومانسية في‮ ‬زمن الجفاف

بقلم: اسامه انور عكاشة

قلت لصاحبي‮: ‬لن أعاود الكتابة فيما اعتدته وما اعتاده مني‮ ‬قرائي‮.. ‬لن أكتب في‮ ‬مواجع الناس والمشاكل التي‮ ‬تأخذ بخناقهم ولا في‮ ‬فواجع السياسة وموجات خيبات الآمال المتتالية‮.. ‬لا ولن أكتب في‮ ‬المعارك اليومية والتي‮ ‬تبدو وكأنها حديث نميمة علي مصاطب البيوت وربات البيوت‮.‬ رمقني‮ ‬صديقي‮ ‬بفضول وسأل‮: ‬وفيم تريد إذاً‮ ‬أن تكتب؟ سأكتب‮ ‬يا صاحبي‮ ‬عن قطرات الماء في‮ ‬زمن الهجير وعن نسائم الربيع في‮ ‬عز القيظ‮.. ‬سأكتب عن عالم عشناه شباباً‮ ‬ورجالاً‮ ‬ونشله الزمن منا فبتنا نتلفت ضائعين نتلمس منه ولو بعضاً‮ ‬من آثاره وبقاياه فلا نجد في‮ ‬الحنايا إلا اصداء المعزوفات القديمة ورنين الاوتار المقطوعة‮! ‬أريد أن استعيد تلك المسروقات وانتزعها انتزاعاً‮ ‬من قلب حاضر جاف متحجر لم‮ ‬يعد قادراً‮ ‬علي فهم الحروف والكلمات في‮ ‬قصيدة شعر كما صُمت آذانه عن سماع معزوفة او مغناة تخرج من القلب لترهف الحس وتدغدغ‮ ‬المشاعر‮..

‬أريد أن أري الزهرة تنبت من قلب الصخر فإن لم أرها في‮ ‬صحراء الواقع الخشن فسأصنع لها صورة من ذكرياتي‮ ‬أعلقها علي حائط خيالي‮.‬ أريد أن استعيد‮ ‬يوماً‮ ‬من صباي‮ ‬أقف فيه بشرفة منزلنا القديم في‮ ‬بلدتنا البعيدة امسك في‮ ‬يدي‮ ‬برواية لمحمود تيمور أو‮ ‬يوسف السباعي‮ ‬لأريها عبر الشارع المقابل لبنت الجيران التي‮ ‬تقف في‮ ‬النافذة البعيدة تعبث بخصلات شعرها وتتظاهر بأنها لا تراني‮ ‬ولكنها ترفع مؤشر الصوت في‮ ‬المذياع لتتهادي‮ ‬اليَّ‮ ‬كلمات اغنية لنجاة الصغيرة‮ "‬أسهر وأنشغل أنا‮.. ‬وانت ولا انت هنا‮.. ‬شاغلني‮ ‬معاك وباستناك شوف كم سنة‮".‬ وأتذكر كيف كنت اتبعها من مدرستها الي منزلها‮ "‬يوماتي‮" ‬دون أن افكر لحظة في‮ ‬أن اقول لها كلمة ويكفيني‮ ‬أن انال منها تلك النظرة في‮ ‬عين ترمش بارتباك‮! ‬وتلك الليالي‮ ‬البيضاء التي‮ ‬مرت في‮ ‬ايام امتحانات‮ "‬الثانوي‮".. ‬الكتاب مفتوح علي حجري‮ ‬والعينان شاخص في‮ ‬سماء ليلية مرصعة بالنجوم ومن راديو بعيد تأتي‮ ‬مقاطع من ام كلثوم‮ "‬يا ظالمني‮ ‬وقلبي‮ ‬من رضا ظالمي‮ ‬محروم‮" ‬والمشاعر تفيض حتي‮ ‬الاختناق بالدمع وكيف كان طعم الدمع المخنوق معذباً‮ ‬كقطرات الندي في‮ ‬الفجر المطل‮.‬ ويوم آخر أتسوله من شبابي‮.. ‬

في‮ ‬زمن العنفوان ونضوج كل المشاعر علي نار الحكايات الموعودة والبحث عن فتاة الاحلام التي‮ ‬قد تمضي‮ ‬اعز السنوات وأنت تبحث عنها في كل مكان وتسأل موج البحر وفيروز الشطآن علي رأي عمنا نزار في أنشودته الوداعية الشهيرة أو قد تلتقي بها فجأة علي‮ ‬غير موعد وفي‮ ‬غير أوان وتسفر شرارة الالتقاء أو الارتطام عن قصة متعجلة مفعمة بأوار اللهفة والبغتة والإغماءة،‮ ‬وتجد نفسك طريح‮ »‬الغرام‮« ‬في حدوتة قد تنتهي مسيلة لدموع كثيرة،‮ ‬وربما قطرات من دم تنزف في الأعماق ونلجأ وقد تحتم أن تنتهي كل الحواديت بنفس النهاية‮ »‬وهي نهاية طبيعية،‮ ‬بل وضرورية،‮ ‬لابد أن ينتهي بها الحب الأول‮«.. ‬نلجأ إلي مصحة جرحي الحب في مقهي‮ »‬أم كلثوم‮« ‬ذي‮ ‬الثلاثة طوابق في ميدان التوفيقية،‮ ‬حيث ننفرد بأنفسنا في الطابق الثالث المخصص للسميعة و»الحبيبة‮« ‬فقط وحيث يسود الصمت التام إلا من زفرات الألم‮.. ‬فقط صوت أم كلثوم يدفع بالدمع إلي المآقي‮: »‬هجرتك يمكن أنسي‮ ‬هواك وأودع قلبك القاسي لقيت روحي في عز جفاك بفكر فيك وأنا ناس‮« ‬و‮...»‬سهران لوحدي أناجي طيفك الساري‮.. ‬هايم في وجدي ودمعي علي الخدود جاري‮«.‬ هو نفس أيام الصوت الذي صاحبنا شباباً‮ ‬ورجالاً‮ ‬واحتل مواطن الحس تحت جلودنا‮..

‬صوت عبدالحليم حافظ يغرد‮: »‬يا حبيبي عشنا أجمل عمر في عينيك الجميلة‮.. ‬أوصل الأيام مع الأحلام في‮ ‬غنوة شوق طويلة للعيون السمر‮«.. ‬الله عليك يا عم مرسي جميل عزيز‮.. ‬الله عليك يا عم مأمون الشناوي،‮.. ‬ويا عم علي مهدي‮.. »‬فوق الشوك مشاني زماني وقاللي تعالي نروح للحب‮.. ‬بعد سنين قاللي ارجع تاني هاتعيش فيه مجروح القلب‮«.‬ ومن‮ »‬نوتة‮« ‬عازفي المشاعر هؤلاء يقودنا السلم تلقائياً‮ ‬إلي‮ »‬نوتة‮« ‬الرحبانية وفيروز،‮ ‬حيث نكتشف مع جارة القمر كل مناهل ومنابع المشاعر والأحاسيس التي ترفل في حلل المساء وزنابق الحقل وأغاريد الحساسين والقبرة والزرزور وكل جوقة المواكب في مواسم العصافير‮.‬ ‮»‬حبيتك تانسيت النوم يا خوفي تنساني حابسني برات النوم تاركني سهرانة‮« »‬وسنرجع‮ ‬يوما حدثني‮ ‬العندليب بأن البلابل لما تزل هناك تعيش بأشعارنا‮« ‬ومن فوار‮ »‬انطلياس‮« ‬لجداول الجبل أدمنا أهازيج فيروز وصحبناها ولن نزل نصحبها إلي الآن‮.‬ ‮.. ‬وعرفنا كيف نلتقي في رجفة اليد حين تتلامس الأصابع وفي لمعة العين في انتظار الموعد والخفقة التي تزلزل الصدر حين يتم اللقاء أوقفني صاحبي مقاطعاً‮ ‬وكأنه يسخر‮: ‬كأنك ولم يتبق لديك‮ ‬غير اجترار الذكريات في محراب الماضي‮.‬ وأجبته جاداً‮ ‬وبعيداً‮ ‬عن ألاعيب الكلام‮:‬ ‮- ‬لا وحياتك‮ ‬يا صاحبي‮ ‬فأنا كعاشق النيل الذي‮ ‬لابد أن‮ ‬يعود إليه‮ "‬حين تمتزج خبرة السنوات بنضوج القلب‮ - ‬وبعذاباته ايضا‮ - ‬يظل التوق منسابا كالفيض علي ضفاف الروح وتظل تظمأ لمشاعر الحنان وتصبو لهاتين الورقتين الموردتين بلون الكرز تطفوان علي سطح كأس مترع بمذاق الشهد وطعم الدموع‮.. ‬ورقتين حين تلثمهما فقد أسر إليك بحل اللغز وفك الطلسم‮..‬ أفقت الي صاحبي‮ ‬يحملق في‮ ‬وجهي‮ ‬وتتراقص في‮ ‬عينيه وعلي لسانه تلك الأسئلة التي‮ ‬تحاول دوماً‮ ‬ان تفرض خشونة الواقع‮:‬ ‮- ‬أهو الهروب؟ أم اليأس؟ أم النزوة؟ ‮- ‬لن أدري‮ ‬ولن تدري‮ ‬فربما كان هذا كله أو لم‮ ‬يكن شيئا منه‮.‬

نقلا عن الوفد

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع