CET 09:20:20 - 03/10/2009

مقالات مختارة

بقلم: مفيد فوزي

بحثت وفتشت ونقبت طويلا عن حب بطعم صدر الأم‏..‏ يمنح ولا يأخذ‏,‏ فلم أعثر‏,‏ اشتقت لكلمة تشعل الحب في قلبي‏,‏ فجاءتني كلمة اشعلت الغضب في صدري‏..‏ كانت الكلمة ـ التي اتلهف عليها ـ طلقة رصاص‏..‏ نفذت الي جدار القلب وهتكت شرايين الإحساس‏.‏ تمنيت أن أنام كعصفور علي راحة كفها‏,‏ لكني واصلت التحليق فلم أعثر علي عش‏..‏ حلمت بحب يأخذني من تروس الحياة التي تطحننا وتهشم عظامنا‏..‏ حب يعطي ولايكف عن العطاء‏.‏ حب بنفس طويل لا أنفاس متقطعة‏.‏

حب لايطلب المقابل فلا يهبط الي مستوي الصفقة‏.‏ حب هامس دامغ‏,‏ ذلك الدمع الحنون ولايتقلص الي رسالة صماء علي الموبايل‏.‏

لكني اكتشفت أنني أقيم صنما من الوهم وأبني بيتا فوق رمال‏,‏ وأني أواجه أطياف خيال‏.‏

إن كنت طبيبي فساعدني كي أعثر علي هذا الحب‏.‏ فأنا لا أريد أن أبحث عنه في السوبر ماركت حيث المعروض منه متنوع‏.‏ حب بحبة البركة‏,‏ حب بزيت الزيتون حب بطعم الرنجه‏.‏ إنه حب له تاريخ ابتداء وله تاريخ انتهاء صلاحية‏..‏

بحثت وفتشت ونقبت طويلا عن اختراع اسمه الرقي‏..‏ لايباع في الصيدليات ولا في محال العطارة ولايستورد من دول بعينها‏.‏ كان‏(‏ الصنف‏)‏ موجودا في حياتنا أيام الزمن الزراعي للأشياء‏.‏ أيام‏(..‏ وأنام مطرح مايجيني النوم‏).‏ رقي في المشاعر ورقي في الأحاسيس‏.‏ رقي في التعامل وفي السماحة‏.‏ رقي في الشارع ورقي في المدرسة‏.‏ رقي في الأخلاق‏.‏

حين كانت المعاملات المالية‏,‏ كلمة‏.‏ حين كان الجار يسأل عن الجار‏.‏ حين كانت الزوجة تغسل قدمي الزوج بعد طول إرهاق‏.‏ حين كان الناس يجمعون مخلفاتهم أمام بيوتهم وتلتقطها عربية البلدية ثم ترش الشوارع صباحا ومساء‏.‏ حين كان الصغير يحترم الكبير ويترك الراكب مقعده في الترام لامرأة حامل‏.‏ حين كان الأقباط يصومون أياما في رمضان‏.‏ وكان المسلمون يشاركون النصاري أعيادهم وأفراحهم‏.‏

لكن الزمن تغير‏,‏ وتوحشت الناس‏,‏ وقد زاد التعداد فظلت الرقعة الزراعية الضيقة في الوادي كما هي‏.‏ لحظتها تصارع الناس بالأكتاف علي الرزق‏..‏ وصار الود بالأجر وسقط‏(‏ الرقي‏)‏ تحت عجلات القطار‏,‏ فمزقه إربا‏.‏

إن كنت طبيب‏,‏ فساعدني كي نستعيد بعضا من الرقي وليس كله‏.‏ إذ بدون هذا‏(‏ البعض‏)‏ من الرقي سنصير غابة وحوش يأكل الناس بعضهم‏.‏

إذ بدون هذا‏(‏ البعض‏)‏ من الرقي ستظللنا سحابات الكراهية التي تمطر أحقادا‏.‏

إذ بدون هذا‏(‏ البعض‏)‏ من الرقي سيصبح كل شيء معروضا بأبخس الأثمان في الأسواق‏.‏ ونقول‏(‏ ماشي‏)‏ لمن أسدي لنا خدمة بدلا من‏(‏ كتر خيرك‏).‏

بحثت ونقبت كثيرا عن ثقافة هي آخر مايتبقي في أذهاننا بعد التعليم‏.‏ فلم أعثر علي شيء أزهو به مثلما كانت هناك أسماء ترصع أسماءنا الأدبية‏..‏ وكان الفكر كفيضان النيل وقصيدة الشعر تنتشر في الصفحة الأولي من الجرائد‏.‏

وكانت المعارك الفكرية تخلو من الركاكة والفجاجة ولغة الحواري وشتائم الصبية‏.‏ كانت في حد ذاتها إضافة للفكر‏.‏ أيام عرفت الكتب طريقها للعيون وبرغم دعوة‏(‏ الجميع‏)‏ للقراءة‏,‏ تعثرت الكتب حيث سقطت في معركتها مع الشاشات المضاءة علي الدوام لاتترك فرصة لكتاب تتصفحه عين قاريء مشتاق‏.‏

بحثت عن ثقافة تتحول الي سلوك متحضر يحكم حياتنا المضطربة‏,‏ فلم أعثر إلا علي همجية وتطاول علي الأعراف‏,‏ انتحيت جانبا وربما انتحبت بكاء علي حال استعصي علي الحل وصار من المحال‏.‏

التحضر‏,‏ كم هو جميل ككلمة وقيمة ومعني‏.‏ التحضر يعبر حواجز التخلف والعقم في التفكير‏.‏ التحضر يدعونا لفهم قيم ديننا والأديان الأخري في رحابة بعرض الأفق‏.‏

التحضر يقلم أظافر العنف والعيون المتحرشة بالنساء‏,‏ التحضر يعلمني كيف استقبل رأيك المعارض وأرد بفهم وهدوء‏,‏ وليس بلون شرشحة النساء لبعضهن في العشوائيات‏.‏ التحضر يفرض علي الصوت المنخفض وقلة الضوضاء والصلاة بدون ميكروفونات‏,‏ فالعلاقة بين الإنسان والله علاقة خاصة ليس فيها قهر ولا إزعاج‏.‏ التحضر يفتح مسام العقل لاستقبال العالم علي شاشة الفهم‏,‏ فلا أرفض الجديد لمجرد أنه جديد‏.‏ ولا أعادي ما أجهله‏.‏ والشعوب التي سبقتنا عرفت جيدا أجهزة‏(‏ الوعي‏)‏ المثبتة في عقول ناسها قبل أجهزة الموبايل والكمبيوتر والآي فون‏.‏

إن كنت طبيبي‏,‏ فساعدني علي الأمل للعثور علي تذكرة في قطار التحضر المسافر للغد وزيارات لناس بلدي لبساتين التحضر‏.‏ ومناهج لأطفال بلدي تحض علي التحضر‏.‏

بحثت وفتشت طويلا عن ـ جدية‏)‏ تنتشلنا من اقعنا المتردي‏.‏ جدية تجمع الجادين في بلدي وهم كثر يشقون نهرا وتيارا في كل ناحية وقرية‏.‏

جدية تحارب التسيب والتساهل والتراخي‏.‏ جدية تضع البشر الصحيح في المواقع الصحيحة ولا مجال للصدفة ولا للأقارب والأنساب‏.‏

جدية مهمة‏,‏ العمل فيها بلا صوت عال وبلا ذنب وبلا خواطر ولا حسابات‏.‏

جدية تقطع الألسنة‏,‏ فإذا نجحت امرأة‏,‏ قالوا وراءها رجل تمنحه عطرها‏,‏ وإذا نجح رجل‏,‏ حاربوه حتي يقصوه‏.‏

إن كنت طبيبي‏,‏ فساعدني علي طريقة‏.‏ مثلي نتعلم فيها ألف باء الجدية‏.‏

فما أحوجنا لقراءة تاريخنا المؤهل في القدم الذي سطعت شمسه يوما علي الغربة‏,‏ ولن أتسلح بتفاؤل كاذب أو أتجمل من قلب قبيح‏.‏

إن كنت طبيبي‏,‏ فأنقذني من هذا الهم‏,‏ فهو هم عام والخاص منه تأثر بالعام‏.‏

مبارك هذا البلد برجاله فهم ثروته التي لاتنضب‏.‏

نقلا عن الأهرام

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٠ صوت عدد التعليقات: ٠ تعليق

خيارات

فهرس القسم
اطبع الصفحة
ارسل لصديق
اضف للمفضلة

جديد الموقع