إن كنت طبيبي فساعدني‏!‏

بقلم: مفيد فوزي

بحثت وفتشت ونقبت طويلا عن حب بطعم صدر الأم‏..‏ يمنح ولا يأخذ‏,‏ فلم أعثر‏,‏ اشتقت لكلمة تشعل الحب في قلبي‏,‏ فجاءتني كلمة اشعلت الغضب في صدري‏..‏ كانت الكلمة ـ التي اتلهف عليها ـ طلقة رصاص‏..‏ نفذت الي جدار القلب وهتكت شرايين الإحساس‏.‏ تمنيت أن أنام كعصفور علي راحة كفها‏,‏ لكني واصلت التحليق فلم أعثر علي عش‏..‏ حلمت بحب يأخذني من تروس الحياة التي تطحننا وتهشم عظامنا‏..‏ حب يعطي ولايكف عن العطاء‏.‏ حب بنفس طويل لا أنفاس متقطعة‏.‏

حب لايطلب المقابل فلا يهبط الي مستوي الصفقة‏.‏ حب هامس دامغ‏,‏ ذلك الدمع الحنون ولايتقلص الي رسالة صماء علي الموبايل‏.‏

لكني اكتشفت أنني أقيم صنما من الوهم وأبني بيتا فوق رمال‏,‏ وأني أواجه أطياف خيال‏.‏

إن كنت طبيبي فساعدني كي أعثر علي هذا الحب‏.‏ فأنا لا أريد أن أبحث عنه في السوبر ماركت حيث المعروض منه متنوع‏.‏ حب بحبة البركة‏,‏ حب بزيت الزيتون حب بطعم الرنجه‏.‏ إنه حب له تاريخ ابتداء وله تاريخ انتهاء صلاحية‏..‏

بحثت وفتشت ونقبت طويلا عن اختراع اسمه الرقي‏..‏ لايباع في الصيدليات ولا في محال العطارة ولايستورد من دول بعينها‏.‏ كان‏(‏ الصنف‏)‏ موجودا في حياتنا أيام الزمن الزراعي للأشياء‏.‏ أيام‏(..‏ وأنام مطرح مايجيني النوم‏).‏ رقي في المشاعر ورقي في الأحاسيس‏.‏ رقي في التعامل وفي السماحة‏.‏ رقي في الشارع ورقي في المدرسة‏.‏ رقي في الأخلاق‏.‏

حين كانت المعاملات المالية‏,‏ كلمة‏.‏ حين كان الجار يسأل عن الجار‏.‏ حين كانت الزوجة تغسل قدمي الزوج بعد طول إرهاق‏.‏ حين كان الناس يجمعون مخلفاتهم أمام بيوتهم وتلتقطها عربية البلدية ثم ترش الشوارع صباحا ومساء‏.‏ حين كان الصغير يحترم الكبير ويترك الراكب مقعده في الترام لامرأة حامل‏.‏ حين كان الأقباط يصومون أياما في رمضان‏.‏ وكان المسلمون يشاركون النصاري أعيادهم وأفراحهم‏.‏

لكن الزمن تغير‏,‏ وتوحشت الناس‏,‏ وقد زاد التعداد فظلت الرقعة الزراعية الضيقة في الوادي كما هي‏.‏ لحظتها تصارع الناس بالأكتاف علي الرزق‏..‏ وصار الود بالأجر وسقط‏(‏ الرقي‏)‏ تحت عجلات القطار‏,‏ فمزقه إربا‏.‏

إن كنت طبيب‏,‏ فساعدني كي نستعيد بعضا من الرقي وليس كله‏.‏ إذ بدون هذا‏(‏ البعض‏)‏ من الرقي سنصير غابة وحوش يأكل الناس بعضهم‏.‏

إذ بدون هذا‏(‏ البعض‏)‏ من الرقي ستظللنا سحابات الكراهية التي تمطر أحقادا‏.‏

إذ بدون هذا‏(‏ البعض‏)‏ من الرقي سيصبح كل شيء معروضا بأبخس الأثمان في الأسواق‏.‏ ونقول‏(‏ ماشي‏)‏ لمن أسدي لنا خدمة بدلا من‏(‏ كتر خيرك‏).‏

بحثت ونقبت كثيرا عن ثقافة هي آخر مايتبقي في أذهاننا بعد التعليم‏.‏ فلم أعثر علي شيء أزهو به مثلما كانت هناك أسماء ترصع أسماءنا الأدبية‏..‏ وكان الفكر كفيضان النيل وقصيدة الشعر تنتشر في الصفحة الأولي من الجرائد‏.‏

وكانت المعارك الفكرية تخلو من الركاكة والفجاجة ولغة الحواري وشتائم الصبية‏.‏ كانت في حد ذاتها إضافة للفكر‏.‏ أيام عرفت الكتب طريقها للعيون وبرغم دعوة‏(‏ الجميع‏)‏ للقراءة‏,‏ تعثرت الكتب حيث سقطت في معركتها مع الشاشات المضاءة علي الدوام لاتترك فرصة لكتاب تتصفحه عين قاريء مشتاق‏.‏

بحثت عن ثقافة تتحول الي سلوك متحضر يحكم حياتنا المضطربة‏,‏ فلم أعثر إلا علي همجية وتطاول علي الأعراف‏,‏ انتحيت جانبا وربما انتحبت بكاء علي حال استعصي علي الحل وصار من المحال‏.‏

التحضر‏,‏ كم هو جميل ككلمة وقيمة ومعني‏.‏ التحضر يعبر حواجز التخلف والعقم في التفكير‏.‏ التحضر يدعونا لفهم قيم ديننا والأديان الأخري في رحابة بعرض الأفق‏.‏

التحضر يقلم أظافر العنف والعيون المتحرشة بالنساء‏,‏ التحضر يعلمني كيف استقبل رأيك المعارض وأرد بفهم وهدوء‏,‏ وليس بلون شرشحة النساء لبعضهن في العشوائيات‏.‏ التحضر يفرض علي الصوت المنخفض وقلة الضوضاء والصلاة بدون ميكروفونات‏,‏ فالعلاقة بين الإنسان والله علاقة خاصة ليس فيها قهر ولا إزعاج‏.‏ التحضر يفتح مسام العقل لاستقبال العالم علي شاشة الفهم‏,‏ فلا أرفض الجديد لمجرد أنه جديد‏.‏ ولا أعادي ما أجهله‏.‏ والشعوب التي سبقتنا عرفت جيدا أجهزة‏(‏ الوعي‏)‏ المثبتة في عقول ناسها قبل أجهزة الموبايل والكمبيوتر والآي فون‏.‏

إن كنت طبيبي‏,‏ فساعدني علي الأمل للعثور علي تذكرة في قطار التحضر المسافر للغد وزيارات لناس بلدي لبساتين التحضر‏.‏ ومناهج لأطفال بلدي تحض علي التحضر‏.‏

بحثت وفتشت طويلا عن ـ جدية‏)‏ تنتشلنا من اقعنا المتردي‏.‏ جدية تجمع الجادين في بلدي وهم كثر يشقون نهرا وتيارا في كل ناحية وقرية‏.‏

جدية تحارب التسيب والتساهل والتراخي‏.‏ جدية تضع البشر الصحيح في المواقع الصحيحة ولا مجال للصدفة ولا للأقارب والأنساب‏.‏

جدية مهمة‏,‏ العمل فيها بلا صوت عال وبلا ذنب وبلا خواطر ولا حسابات‏.‏

جدية تقطع الألسنة‏,‏ فإذا نجحت امرأة‏,‏ قالوا وراءها رجل تمنحه عطرها‏,‏ وإذا نجح رجل‏,‏ حاربوه حتي يقصوه‏.‏

إن كنت طبيبي‏,‏ فساعدني علي طريقة‏.‏ مثلي نتعلم فيها ألف باء الجدية‏.‏

فما أحوجنا لقراءة تاريخنا المؤهل في القدم الذي سطعت شمسه يوما علي الغربة‏,‏ ولن أتسلح بتفاؤل كاذب أو أتجمل من قلب قبيح‏.‏

إن كنت طبيبي‏,‏ فأنقذني من هذا الهم‏,‏ فهو هم عام والخاص منه تأثر بالعام‏.‏

مبارك هذا البلد برجاله فهم ثروته التي لاتنضب‏.‏

نقلا عن الأهرام

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع