بطيئة هي استجابة مجتمعنا للجهود المبذولة من أجل تدعيم الهوية الوطنية المصرية الجامعة وإعلانها فوق الهويات الفرعية( ما قبل الوطنية) التي تنامي بعضها في العقود الأخيرة. وكان أكثر ما تنامي في هذا المجال الهوية الدينية التي تضخمت واقترنت بتعصب يثير القلق بشأن مستقبل الهوية الوطنية التي تجمع الهويات الدينية المتعددة وغيرها. فقد أنتج التعصب للهوية الدينية نزاعات مجتمعية متفاوتة الحدة. ولكن المعضلة ليست فقط في هذه النزاعات, وإنما في حالة الاحتقان التي تجعل العنف واردا في التعاطق مع بعض الخلافات الصغيرة بين شخصين أو فريقين أحدهما مسلم والآخر مسيحي. وأصبح هذا الاحتقان وما يترتب عليه من نزاعات توصف بأنها طائفية, تهديدا للهوية الوطنية الجامعة. ويمكن أن نجد ما يدل علي ذلك التهديد في ازدياد معدلات النزاعات الطائفية مجددا في الثلاثة أشهر الأخيرة في عدد من المحافظات.
غير أن تأمل هذه النزاعات يفيد بأن أقلها ارتبط بأسباب ذات طابع محض ديني أهمها تحويل بعض المنازل إلي دور عبادة بشكل عشوائي, بينما نتج معظمها عن عاملين لا يتصلان مباشرة بمسألة الانتماء الديني. ولكن الاحتقان السائد يجعلهما منتجين لنزاعات طائفية في بعض الحالات التي يكون فيها الخلاف بين طرفين مسلم مسيحي, فأما العامل الأول فهو يتعلق بمعاملات تجارية ومالية يفترض أن تحكمها المصلحة, وليس الانتماء الديني أو الهوية مهما يكن نوعها. ومع ذلك, لوحظ أن بعض تلك المعاملات يتحول إلي نزاع طائفي فور حدوث أي خلاف إذا كان الطرفان مختلفين في انتمائهما الديني.
وأما العامل الثاني الأقل انتشارا فهو يتصل بعلاقات عاطفية بين شباب وفتيات من الجانبين المسلم والمسيحي. فإذا افتقد ذوو الشاب والفتاة في هذه الحالة الحكمة اللازمة لاحتواء مشكلة اختلاف الانتماء الديني, تتصاعد هذه المشكلة وتفضي إلي نزاع قد يكبر. ولكن تأثير هذا العامل أقل من سابقه الذي ينذر استمراره بخطر داهم لأن المعاملات التجارية والمالية هي من طبائع الأمور في أي مجتمع. وإذا كان ضعف مستوي مشاركة الناس في إدارة شئونهم المجتمعية المحلية يسهم في إبطاء الاستجابة للجهود المبذولة من أجل تقليص هذه النزاعات, فلا يمكن إغفال الأثر القوي المترتب علي دخول العالم في مجمله مرحلة انفجار الهويات الفرعية( ما قبل الوطنية), ولكن بدرجات متفاوتة من منطقة إلي أخري بطبيعة الحال. فلهذا الانفجار أثره حتي إذا كان ظهور النزاعات الطائفية في مصر سابقا عليه. وبالرغم من وجود خلاف بين اتجاهات سياسية وفكرية مختلفة علي تحديد لحظة بداية الأزمة الطائفية, يجوز القول إن مظاهر دالة عليها بدت واضحة في سبعينيات القرن الماضي.
ويعني ذلك أن الوضع كان مهيأ في مصر للتأثر بدخول العالم مرحلة انفجار الهويات بدءا من العقد الماضي فتأثير هذا الانفجار علينا, إذن, قد لا يكون موضع خلاف في حد ذاته. ولكن من الطبيعي أن يوجد خلاف علي تقدير نوع هذا التأثير وليس فقط مداه وفقا لزاوية النظر.
فثمة من يري أن الانفجار العالمي للهويات أدي إلي ازدياد الاحتقان الديني وقابليته بالتالي لإنتاج نزاعات طائفية.. وهناك من يعتقد أن ذلك الانفجار جعل عملية إعادة تركيب الهوية المصرية علي أساس الوطن والمواطنة أكثر صعوبة.
ولكن أيا يكن الأمر, لا يمكن إغفال أهمية ظاهرة انفجار الهوية الفرعية في عالم اليوم, والتي اسماها اللبناني أمين معلوف الذي يكتب بالفرنسية الهوية القاتلة وبغض النظر عن تكييفه لهذا الوصف, فالحاصل أن تنامي الشعور بالهوية قد يصبح خطرا, بل خطرا شديدا, إذا اقترن بتطرف في الأنا وتعصب ضد الآخر.
وقد حدث ذلك فعلا في الوقت الذي دخل العالم مرحلة كان ثمة اعتقاد في أنها ستؤدي ـ علي العكس ـ إلي إحدي نتيجتين أو إلي كلتيهما. الأولي هي ايجاد شعور ما بهوية عالمية, أي تجاوز الهوية الوطنية إلي ما فوقها, وليس تفككها والعودة إلي ما قبلها أو الاستغراق فيما يعتبر تحتها. والحق أن الاعتقاد في ذلك كان خاطئا بامتياز, لأنه نجم عن انطباع شائع في أن العولمة تؤدي بالضرورة إلي هيمنة الثقافة الغربية علي ما عداها.
أما النتيجة الثانية التي شاع الاعتقاد فيها فهي أن العولمة ستؤدي إلي مزيد من التسامح تأسيسا علي افتراض مؤداه أن التعصب ينجم عن الجهل بالآخر, وأن ثورة الاتصالات والمعلومات سوف تيسر المعرفة بالآخر.وكان الاعتقاد في ذلك خاطئا بدوره, لأن المعرفة بالآخر لا تؤدي بالضرورة إلي تسامح معه, فهي تقود أيضا في كثير من الأحيان إلي نفور منه.
وإذا صح ذلك, يصبح من الضروري تطوير الجهود المبذولة من أجل تدعيم الهوية الوطنية المصرية وتقوية ركائزها باتجاه عمل منهجي يهدف إلي إعادة بنائها, والمقصود بعملية إعادة بناء أية هوية هو معالجة التشوه الذي يحدث فيها حين يصيبها تفكك يجعل إحدي الهويات الفرعية مقدمة عليها بدلا من أن تكون تالية لها. وفي هذه الحالة يكون الإنسان مسلما أو مسيحيا, علي سبيل المثال, فإن أن يكون مصريا, مثلما يكون العراقي شيعيا أو سنيا في المقام الأول, وهكذا.
ويصح أن ننتبه هنا إلي أن حدوث تفكك في الهوية الوطنية ليس مرادفا لغياب الانتماء الوطني بالمعني الدارج أو ضعفه, فالمصريون الذين أصاب هويتهم الوطنية شيء من العطب بسبب التعصب الديني لا ينقصهم حب الوطن من حيث إنه مسألة وجدانية شعورية. فالحديث هنا هو علي موقع الهوية الوطنية في سلم الهويات التي لا يمكن إلا أن تكون متعددة. ويحق للإنسان الطبيعي أن يرتب سلم هوياته كما يشاء إلا أن ينزل الهوية الوطنية من موقعها الذي يفترض أن يعلو باقي هذه الهويات.
فإذا حدث غير ذلك, ينبغي أن يثير قلق من يدركون أخطاره فيبحثون عن سبل معالجته, وفي عنايتنا بهذه السبل, ليتنا لا ننسي أن خير معالجة لهذا النوع من الأزمات هو الذي لا يأخذ شكلا مباشرا, وإنما يرتبط باصلاحات ثقافية ومجتمعية وسياسية, وقد يندرج أيضا ضمن عمليات تاريخية أو تحولات في مسار المجتمع وأنماط تفاعلاته ومنظومات قيمه.
نقلا عن الأهرام |