النزاعات الطائفية‏..‏ والهوية الوطنية المصرية

بقلم: د‏.‏ وحيد عبدالمجيد

بطيئة هي استجابة مجتمعنا للجهود المبذولة من أجل تدعيم الهوية الوطنية المصرية الجامعة وإعلانها فوق الهويات الفرعية‏(‏ ما قبل الوطنية‏)‏ التي تنامي بعضها في العقود الأخيرة‏.‏ وكان أكثر ما تنامي في هذا المجال الهوية الدينية التي تضخمت واقترنت بتعصب يثير القلق بشأن مستقبل الهوية الوطنية التي تجمع الهويات الدينية المتعددة وغيرها‏.‏ فقد أنتج التعصب للهوية الدينية نزاعات مجتمعية متفاوتة الحدة‏.‏ ولكن المعضلة ليست فقط في هذه النزاعات‏,‏ وإنما في حالة الاحتقان التي تجعل العنف واردا في التعاطق مع بعض الخلافات الصغيرة بين شخصين أو فريقين أحدهما مسلم والآخر مسيحي‏.‏ وأصبح هذا الاحتقان وما يترتب عليه من نزاعات توصف بأنها طائفية‏,‏ تهديدا للهوية الوطنية الجامعة‏.‏ ويمكن أن نجد ما يدل علي ذلك التهديد في ازدياد معدلات النزاعات الطائفية مجددا في الثلاثة أشهر الأخيرة في عدد من المحافظات‏.‏

غير أن تأمل هذه النزاعات يفيد بأن أقلها ارتبط بأسباب ذات طابع محض ديني أهمها تحويل بعض المنازل إلي دور عبادة بشكل عشوائي‏,‏ بينما نتج معظمها عن عاملين لا يتصلان مباشرة بمسألة الانتماء الديني‏.‏ ولكن الاحتقان السائد يجعلهما منتجين لنزاعات طائفية في بعض الحالات التي يكون فيها الخلاف بين طرفين مسلم مسيحي‏,‏ فأما العامل الأول فهو يتعلق بمعاملات تجارية ومالية يفترض أن تحكمها المصلحة‏,‏ وليس الانتماء الديني أو الهوية مهما يكن نوعها‏.‏ ومع ذلك‏,‏ لوحظ أن بعض تلك المعاملات يتحول إلي نزاع طائفي فور حدوث أي خلاف إذا كان الطرفان مختلفين في انتمائهما الديني‏.‏

وأما العامل الثاني الأقل انتشارا فهو يتصل بعلاقات عاطفية بين شباب وفتيات من الجانبين المسلم والمسيحي‏.‏ فإذا افتقد ذوو الشاب والفتاة في هذه الحالة الحكمة اللازمة لاحتواء مشكلة اختلاف الانتماء الديني‏,‏ تتصاعد هذه المشكلة وتفضي إلي نزاع قد يكبر‏.‏ ولكن تأثير هذا العامل أقل من سابقه الذي ينذر استمراره بخطر داهم لأن المعاملات التجارية والمالية هي من طبائع الأمور في أي مجتمع‏.‏ وإذا كان ضعف مستوي مشاركة الناس في إدارة شئونهم المجتمعية المحلية يسهم في إبطاء الاستجابة للجهود المبذولة من أجل تقليص هذه النزاعات‏,‏ فلا يمكن إغفال الأثر القوي المترتب علي دخول العالم في مجمله مرحلة انفجار الهويات الفرعية‏(‏ ما قبل الوطنية‏),‏ ولكن بدرجات متفاوتة من منطقة إلي أخري بطبيعة الحال‏.‏ فلهذا الانفجار أثره حتي إذا كان ظهور النزاعات الطائفية في مصر سابقا عليه‏.‏ وبالرغم من وجود خلاف بين اتجاهات سياسية وفكرية مختلفة علي تحديد لحظة بداية الأزمة الطائفية‏,‏ يجوز القول إن مظاهر دالة عليها بدت واضحة في سبعينيات القرن الماضي‏.‏

ويعني ذلك أن الوضع كان مهيأ في مصر للتأثر بدخول العالم مرحلة انفجار الهويات بدءا من العقد الماضي فتأثير هذا الانفجار علينا‏,‏ إذن‏,‏ قد لا يكون موضع خلاف في حد ذاته‏.‏ ولكن من الطبيعي أن يوجد خلاف علي تقدير نوع هذا التأثير وليس فقط مداه وفقا لزاوية النظر‏.‏

فثمة من يري أن الانفجار العالمي للهويات أدي إلي ازدياد الاحتقان الديني وقابليته بالتالي لإنتاج نزاعات طائفية‏..‏ وهناك من يعتقد أن ذلك الانفجار جعل عملية إعادة تركيب الهوية المصرية علي أساس الوطن والمواطنة أكثر صعوبة‏.‏

ولكن أيا يكن الأمر‏,‏ لا يمكن إغفال أهمية ظاهرة انفجار الهوية الفرعية في عالم اليوم‏,‏ والتي اسماها اللبناني أمين معلوف الذي يكتب بالفرنسية الهوية القاتلة وبغض النظر عن تكييفه لهذا الوصف‏,‏ فالحاصل أن تنامي الشعور بالهوية قد يصبح خطرا‏,‏ بل خطرا شديدا‏,‏ إذا اقترن بتطرف في الأنا وتعصب ضد الآخر‏.‏

وقد حدث ذلك فعلا في الوقت الذي دخل العالم مرحلة كان ثمة اعتقاد في أنها ستؤدي ـ علي العكس ـ إلي إحدي نتيجتين أو إلي كلتيهما‏.‏ الأولي هي ايجاد شعور ما بهوية عالمية‏,‏ أي تجاوز الهوية الوطنية إلي ما فوقها‏,‏ وليس تفككها والعودة إلي ما قبلها أو الاستغراق فيما يعتبر تحتها‏.‏ والحق أن الاعتقاد في ذلك كان خاطئا بامتياز‏,‏ لأنه نجم عن انطباع شائع في أن العولمة تؤدي بالضرورة إلي هيمنة الثقافة الغربية علي ما عداها‏.‏

أما النتيجة الثانية التي شاع الاعتقاد فيها فهي أن العولمة ستؤدي إلي مزيد من التسامح تأسيسا علي افتراض مؤداه أن التعصب ينجم عن الجهل بالآخر‏,‏ وأن ثورة الاتصالات والمعلومات سوف تيسر المعرفة بالآخر‏.‏وكان الاعتقاد في ذلك خاطئا بدوره‏,‏ لأن المعرفة بالآخر لا تؤدي بالضرورة إلي تسامح معه‏,‏ فهي تقود أيضا في كثير من الأحيان إلي نفور منه‏.‏

وإذا صح ذلك‏,‏ يصبح من الضروري تطوير الجهود المبذولة من أجل تدعيم الهوية الوطنية المصرية وتقوية ركائزها باتجاه عمل منهجي يهدف إلي إعادة بنائها‏,‏ والمقصود بعملية إعادة بناء أية هوية هو معالجة التشوه الذي يحدث فيها حين يصيبها تفكك يجعل إحدي الهويات الفرعية مقدمة عليها بدلا من أن تكون تالية لها‏.‏ وفي هذه الحالة يكون الإنسان مسلما أو مسيحيا‏,‏ علي سبيل المثال‏,‏ فإن أن يكون مصريا‏,‏ مثلما يكون العراقي شيعيا أو سنيا في المقام الأول‏,‏ وهكذا‏.‏

ويصح أن ننتبه هنا إلي أن حدوث تفكك في الهوية الوطنية ليس مرادفا لغياب الانتماء الوطني بالمعني الدارج أو ضعفه‏,‏ فالمصريون الذين أصاب هويتهم الوطنية شيء من العطب بسبب التعصب الديني لا ينقصهم حب الوطن من حيث إنه مسألة وجدانية شعورية‏.‏ فالحديث هنا هو علي موقع الهوية الوطنية في سلم الهويات التي لا يمكن إلا أن تكون متعددة‏.‏ ويحق للإنسان الطبيعي أن يرتب سلم هوياته كما يشاء إلا أن ينزل الهوية الوطنية من موقعها الذي يفترض أن يعلو باقي هذه الهويات‏.‏

فإذا حدث غير ذلك‏,‏ ينبغي أن يثير قلق من يدركون أخطاره فيبحثون عن سبل معالجته‏,‏ وفي عنايتنا بهذه السبل‏,‏ ليتنا لا ننسي أن خير معالجة لهذا النوع من الأزمات هو الذي لا يأخذ شكلا مباشرا‏,‏ وإنما يرتبط باصلاحات ثقافية ومجتمعية وسياسية‏,‏ وقد يندرج أيضا ضمن عمليات تاريخية أو تحولات في مسار المجتمع وأنماط تفاعلاته ومنظومات قيمه‏.‏

نقلا عن الأهرام

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع