CET 08:58:45 - 17/08/2009

مقالات مختارة

بقلم: سليمان جودة

في واحد من معارض الكتاب،‮ ‬عندما كان لايزال عندنا معرض حقيقي من هذا النوع،‮ ‬دخل الدكتور يوسف إدريس في نقاش مفتوح مع رواد المعرض،‮ ‬وكان ذلك الرجل العظيم يرحمه الله،‮ ‬معروفاً‮ ‬عنه اعتزازه بنفسه،‮ ‬وبموهبته،‮ ‬ووزنه،‮ ‬ومكانته إلي أبعد الحدود‮.. ‬وقد كان علي حق تماماً،‮ ‬في تلك الطاووسية التي لم تكن تفارقه،‮ ‬ولكنها قصة أخري‮.. ‬وقد وقف شاب من الحاضرين يومها يسأله عن أول قرار سوف يتخذه،‮ ‬إذ كتب الله له يوماً‮ ‬أن يكون رئيسا للجمهورية؟‮!‬ ولم يفكر الدكتور يوسف،‮ ‬طويلاً،‮ ‬ربما لأنه كان يري أن من الطبيعي،‮ ‬أن يكون رجل مثله،‮ ‬رئيسا للدولة،‮ ‬لنحقق رغبة أفلاطون القديمة في أن يكون رئيس الجمهورية من الفلاسفة،‮ ‬أو الأدباء،‮ ‬أو المفكرين العظام‮!‬ أجاب الدكتور يوسف،‮ ‬وكانت إجابة مفاجأة للجميع،‮ ‬فقال إن أول قرار سوف يتخذه،‮ ‬حين يصبح رئيساً‮ ‬للدولة،‮ ‬هو قرار حل الدولة‮!‬

وأظن أنه لما ذهب يفسر للمستمعين،‮ ‬معني قراره المفترض،‮ ‬أنه قال،‮ ‬إن‮ »‬الحل‮« ‬هنا لا يعني رفض الدولة،‮ ‬كفكرة،‮ ‬ولا يعني أنه يرغب في اختفاء الدولة ومجيء الفوضي مكانها،‮ ‬ولا يعني أن الدولة،‮ ‬كفكرة أيضاً،‮ ‬قد فشلت في العالم،‮ ‬منذ جاءت بها نظرية العقد الاجتماعي الشهيرة،‮ ‬التي كانت أساس الفكرة‮.. ‬إنما كان ما يعنيه،‮ ‬أن الدولة يفترض فيها دوماً،‮ ‬أن تكون عوناً‮ ‬للمواطن،‮ ‬لا أن تكون عبئاً‮ ‬عليه في حياته وأنها يفترض فيها أيضاً،‮ ‬أن تيسر الحياة علي الناس،‮ ‬لا أن تؤدي إلي صعوبتها،‮ ‬وأحيانا استحالتها‮.‬ دولة يشعر معها الذي يعيش علي أرضها،‮ ‬من مواطنيها،‮ ‬بأنها ترعاه وتحميه،‮ ‬ولا تلاحقه‮.. ‬يشعر بأنها تدعمه،‮ ‬ولا تطارده‮.. ‬يشعر إجمالاً‮ ‬بأنها في صفه،‮ ‬وليست ضده في كل خطوة يخطوها‮.. ‬فإذا لم تكن كذلك،‮ ‬فهذه هي الدولة التي كان يتمني عظيمنا الراحل يوسف إدريس،‮ ‬لو أصبح رئيساً‮ ‬لها،‮ ‬فيصدر قراراً‮ ‬بحلها علي الفور‮.‬ وفي سياق آخر،‮ ‬كان قد خرج مصطلح‮ »‬الدولة الرخوة‮« ‬علي يد‮ »‬ميرال‮« ‬وهو عالم سويدي كبير،‮ ‬في العلوم السياسية‮.. ‬وكان وهو يبتكر هذا المصطلح،‮ ‬يتكلم بشكل أو بآخر،‮ ‬عن المعني نفسه،‮ ‬الذي كان يوسف إدريس يرفضه في الدولة،‮ ‬ولم تكن الدولة عند‮ »‬ميرال‮« ‬ينقصها قوانين،‮ ‬ولا حكام،‮ ‬ولا هيئات،‮ ‬ولا حتي مؤسسات شكلية‮.. ‬

لم‮ ‬يكن ينقصها شيء من ذلك،‮ ‬ولا من‮ ‬غيره مما يوازيه علي الإطلاق‮.. ‬وإنما كان ينقصها دوماً،‮ ‬قدرتها علي أن تضع قوانينها موضع التنفيذ‮.. ‬فالدولة الرخوة يكون فيها قوانين تكفي لضبط حركة الأرض،‮ ‬ولكنها قوانين معطلة،‮ ‬ومخترقة،‮ ‬ومهملة،‮ ‬ومهترئة،‮ ‬ومركونة،‮ ‬و‮.. ‬و‮.. ‬إلي آخر كل هذه المعاني‮.. ‬وهذا بالضبط،‮ ‬هو الذي يجعل منها دولة رخوة،‮ ‬ويجعل‮ ‬غيرها دولة قوية،‮ ‬تضع القانون ليجري تطبيقه،‮ ‬لا ليجري الدوران حوله،‮ ‬والاحتيال عليه‮!.. ‬الدولة الرخوة فيها أي قانون تريده هي،‮ ‬أو تريده أنت،‮ ‬أو يريده أي أحد،‮ ‬ولكنها تفتقد‮ »‬العزيمة‮« ‬التي تحول قوانينها كلها،‮ ‬إلي شيء حي لدي الناس‮!.. ‬فيها شعب،‮ ‬وأرض،‮ ‬وحكومة،‮ ‬ولكنها ليست‮ »‬دولة‮« ‬بالمعني الحقيقي لهذه الكلمة‮!‬ وليس من الممكن،‮ ‬أن يري المرء ما يدور في حياتنا،‮ ‬في أكثر من ركن،‮ ‬وفي أكثر من موقع،‮ ‬ثم لا يذكر يوسف إدريس،‮ ‬في الحال،‮ ‬أو لا يذكر ذلك العبقري‮ »‬ميرال‮« ‬الذي استطاع أن يصف أحوالنا،‮ ‬بدقة،‮ ‬وصدق،‮ ‬دون أن يرانا‮!‬ وليس من الممكن،‮ ‬أن نتابع قضية الصيادين المصريين المحتجزين في الصومال،‮ ‬ثم لا نذكر فوراً،‮ ‬ما كان يتمناه الدكتور إدريس،‮ ‬وما كان يقوله‮ »‬ميرال‮« ‬وكأنه كان يشير إلينا،‮ ‬ومعه الذين يرون ما يراه‮!‬

فعندنا‮ ‬38‮ ‬صياداً‮ ‬من بورسعيد،‮ ‬وكفر الشيخ ودمياط،‮ ‬مختطفين في قبضة قراصنة الصومال،‮ ‬منذ شهور،‮ ‬دون أن تتمكن الدولة،‮ ‬بكل هيلمانها،‮ ‬من فك أسرهم‮!‬ طبعاً‮.. ‬لابد أن نقر ـ هنا ـ بأن الخارجية المصرية كان لها دور مهم،‮ ‬في خفض مبلغ‮ ‬الفدية المطلوب من القراصنة،‮ ‬من‮ ‬5‮ ‬ملايين دولار،‮ ‬إلي‮ ‬800‮ ‬ألف دولار،‮ ‬وكان للخارجية أيضا دور لابد أن نذكره،‮ ‬في اتجاه محاولة الإفراج عن الصيادين،‮ ‬ولكن المشكلة أن دورها توقف،‮ ‬أو كاد،‮ ‬عند حدود خفض مبلغ‮ ‬الفدية‮.. ‬أو علي الأقل،‮ ‬هذا ما يبدو للناس،‮ ‬والمشكلة أيضاً‮ ‬أن المصريين بوجه عام،‮ ‬ثم أهالي الصيادين بوجه خاص،‮ ‬كان يحدوهم الأمل،‮ ‬في أن تتمكن الخارجية المصرية ـ وهي قادرة ـ من فك أسر المختطفين‮!‬ لا أشك لحظة،‮ ‬في صدق نوايا الوزير أحمد أبوالغيط،‮ ‬في تخليص المختطفين مما هم فيه،‮ ‬ولا أشك لحظة في أن الخارجية،‮ ‬بكل أجهزتها المتاحة،‮ ‬قد بذلت ما تستطيعه،‮ ‬ولكن علي الجانب الآخر،‮ ‬ليس معقولاً،‮ ‬أن يكون كل ما نستطيع أن نفعله،‮ ‬هو تخفيض الفدية،‮ ‬من‮ ‬5‮ ‬ملايين إلي‮ ‬800‮ ‬ألف دولار‮.. ‬فنحن نتكلم عن دولة بحجم مصر،‮ ‬ونتكلم عن وزارة خارجية بحجم الدولة التي ننتمي إليها،‮ ‬ونتكلم عن دولة ثم وزارة لهما بالتأكيد،‮ ‬تأثير في العمق الأفريقي،‮ ‬ولو بحكم ما كان لنا هناك،‮ ‬وليس بالضرورة بحكم ما هو كائن‮!‬ ومع ذلك،‮ ‬فليست هذه هي المشكلة الحقيقية‮.. ‬

فحقيقة الأمر،‮ ‬أن الحزن قد خيم علي كثيرين بيننا،‮ ‬حين اكتشفوا أن الدولة قد نفضت يدها تقريباً،‮ ‬من القضية،‮ ‬بدليل أن الأهالي يتفاوضون الآن،‮ ‬ومنذ فترة،‮ ‬علي تخليص صياديهم،‮ ‬وقد نجح التفاوض،‮ ‬كما قيل مؤخراً،‮ ‬في خفض الـ‮ ‬800‮ ‬ألفاً،‮ ‬إلي‮ ‬600‮ ‬ألف دولار‮!!‬ قبل ذلك،‮ ‬كان الأهالي أنفسهم،‮ ‬وخصوصا في كفر الشيخ،‮ ‬قد بدأوا في جمع المبلغ‮ ‬بالجهود الأهلية،‮ ‬وقيل إنهم نجحوا في جمع‮ ‬200‮ ‬ألف دولار،‮ ‬في دمياط،‮ ‬و66‮ ‬ألف جنيه في كفر الشيخ،‮ ‬ما يعني أن الصيادين يمكن أن يهلكوا هناك،‮ ‬قبل أن يتمكن أهاليهم من جمع المبلغ‮ ‬كاملاً‮.. ‬دولاراً‮ ‬وراء دولار‮.. ‬وجنيهاً‮ ‬وراء جنيه‮!‬ والحقيقة أن ما حدث،‮ ‬ولا يزال يحدث،‮ ‬نوع من العبث،‮ ‬لا ندري كيف سمحت الدولة بوجوده‮.. ‬فالمفترض أن تخليص هؤلاء المختطفين مسئولية الدولة التي ينتمون إليها،‮ ‬أولاً،‮ ‬وأخيراً،‮ ‬وليس مسئولية الأهالي علي الإطلاق،‮ ‬وإذا سمحت الدولة للأهالي بأن يخلصوا صياديهم،‮ ‬بطريقتهم الخاصة،‮ ‬فمعني هذا إقرار من الدولة،‮ ‬بأنها‮ ‬غير موجودة،‮ ‬وغير فعالة،‮ ‬وغير قادرة،‮ ‬مع أننا موجودة،‮ ‬وفعالة،‮ ‬وقادرة،‮ ‬وكل شيء‮..

‬ولكن ينقصها فقط أن تريد أن تكون بهذه الصفات‮!‬ ولا يمكن أبداً‮ ‬أن نتصور،‮ ‬أن تكون الدولة تتابع جهود الأهالي،‮ ‬ثم تتفرج وتسكت‮.. ‬لا يمكن‮.. ‬فهذا طعن مباشر،‮ ‬في هيبتها،‮ ‬كما أنه سحب مباشر من رصيدها في حياة مواطنيها‮.. ‬ولابد أن يصدر بيان سريع وعاجل،‮ ‬من الدولة،‮ ‬علي أي مستوي،‮ ‬يطلب من الأهالي أن يتوقفوا عما يفعلونه،‮ ‬وأن يهدأوا،‮ ‬لأن تخليص الصيادين مسئولية دولتهم وحدها،‮ ‬وهي مسئولية لا يجوز مطلقاً‮ ‬أن ينازعها فيها أحد‮!‬ كيف تقبل الدولة،‮ ‬علي نفسها،‮ ‬أن تقدم استقالتها من حياة أبنائها هكذا بسهولة،‮ ‬وعلي الملأ؟‮!‬ ما يحدث عيب كبير في حق الدولة،‮ ‬وفي حقنا جميعاً‮.. ‬فلا تتفرجوا عليه‮!‬

نقلا عن الوفد

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٠ صوت عدد التعليقات: ٠ تعليق

خيارات

فهرس القسم
اطبع الصفحة
ارسل لصديق
اضف للمفضلة

جديد الموقع