عندما تقدم الدولة استقالتها‮!‬

بقلم: سليمان جودة

في واحد من معارض الكتاب،‮ ‬عندما كان لايزال عندنا معرض حقيقي من هذا النوع،‮ ‬دخل الدكتور يوسف إدريس في نقاش مفتوح مع رواد المعرض،‮ ‬وكان ذلك الرجل العظيم يرحمه الله،‮ ‬معروفاً‮ ‬عنه اعتزازه بنفسه،‮ ‬وبموهبته،‮ ‬ووزنه،‮ ‬ومكانته إلي أبعد الحدود‮.. ‬وقد كان علي حق تماماً،‮ ‬في تلك الطاووسية التي لم تكن تفارقه،‮ ‬ولكنها قصة أخري‮.. ‬وقد وقف شاب من الحاضرين يومها يسأله عن أول قرار سوف يتخذه،‮ ‬إذ كتب الله له يوماً‮ ‬أن يكون رئيسا للجمهورية؟‮!‬ ولم يفكر الدكتور يوسف،‮ ‬طويلاً،‮ ‬ربما لأنه كان يري أن من الطبيعي،‮ ‬أن يكون رجل مثله،‮ ‬رئيسا للدولة،‮ ‬لنحقق رغبة أفلاطون القديمة في أن يكون رئيس الجمهورية من الفلاسفة،‮ ‬أو الأدباء،‮ ‬أو المفكرين العظام‮!‬ أجاب الدكتور يوسف،‮ ‬وكانت إجابة مفاجأة للجميع،‮ ‬فقال إن أول قرار سوف يتخذه،‮ ‬حين يصبح رئيساً‮ ‬للدولة،‮ ‬هو قرار حل الدولة‮!‬

وأظن أنه لما ذهب يفسر للمستمعين،‮ ‬معني قراره المفترض،‮ ‬أنه قال،‮ ‬إن‮ »‬الحل‮« ‬هنا لا يعني رفض الدولة،‮ ‬كفكرة،‮ ‬ولا يعني أنه يرغب في اختفاء الدولة ومجيء الفوضي مكانها،‮ ‬ولا يعني أن الدولة،‮ ‬كفكرة أيضاً،‮ ‬قد فشلت في العالم،‮ ‬منذ جاءت بها نظرية العقد الاجتماعي الشهيرة،‮ ‬التي كانت أساس الفكرة‮.. ‬إنما كان ما يعنيه،‮ ‬أن الدولة يفترض فيها دوماً،‮ ‬أن تكون عوناً‮ ‬للمواطن،‮ ‬لا أن تكون عبئاً‮ ‬عليه في حياته وأنها يفترض فيها أيضاً،‮ ‬أن تيسر الحياة علي الناس،‮ ‬لا أن تؤدي إلي صعوبتها،‮ ‬وأحيانا استحالتها‮.‬ دولة يشعر معها الذي يعيش علي أرضها،‮ ‬من مواطنيها،‮ ‬بأنها ترعاه وتحميه،‮ ‬ولا تلاحقه‮.. ‬يشعر بأنها تدعمه،‮ ‬ولا تطارده‮.. ‬يشعر إجمالاً‮ ‬بأنها في صفه،‮ ‬وليست ضده في كل خطوة يخطوها‮.. ‬فإذا لم تكن كذلك،‮ ‬فهذه هي الدولة التي كان يتمني عظيمنا الراحل يوسف إدريس،‮ ‬لو أصبح رئيساً‮ ‬لها،‮ ‬فيصدر قراراً‮ ‬بحلها علي الفور‮.‬ وفي سياق آخر،‮ ‬كان قد خرج مصطلح‮ »‬الدولة الرخوة‮« ‬علي يد‮ »‬ميرال‮« ‬وهو عالم سويدي كبير،‮ ‬في العلوم السياسية‮.. ‬وكان وهو يبتكر هذا المصطلح،‮ ‬يتكلم بشكل أو بآخر،‮ ‬عن المعني نفسه،‮ ‬الذي كان يوسف إدريس يرفضه في الدولة،‮ ‬ولم تكن الدولة عند‮ »‬ميرال‮« ‬ينقصها قوانين،‮ ‬ولا حكام،‮ ‬ولا هيئات،‮ ‬ولا حتي مؤسسات شكلية‮.. ‬

لم‮ ‬يكن ينقصها شيء من ذلك،‮ ‬ولا من‮ ‬غيره مما يوازيه علي الإطلاق‮.. ‬وإنما كان ينقصها دوماً،‮ ‬قدرتها علي أن تضع قوانينها موضع التنفيذ‮.. ‬فالدولة الرخوة يكون فيها قوانين تكفي لضبط حركة الأرض،‮ ‬ولكنها قوانين معطلة،‮ ‬ومخترقة،‮ ‬ومهملة،‮ ‬ومهترئة،‮ ‬ومركونة،‮ ‬و‮.. ‬و‮.. ‬إلي آخر كل هذه المعاني‮.. ‬وهذا بالضبط،‮ ‬هو الذي يجعل منها دولة رخوة،‮ ‬ويجعل‮ ‬غيرها دولة قوية،‮ ‬تضع القانون ليجري تطبيقه،‮ ‬لا ليجري الدوران حوله،‮ ‬والاحتيال عليه‮!.. ‬الدولة الرخوة فيها أي قانون تريده هي،‮ ‬أو تريده أنت،‮ ‬أو يريده أي أحد،‮ ‬ولكنها تفتقد‮ »‬العزيمة‮« ‬التي تحول قوانينها كلها،‮ ‬إلي شيء حي لدي الناس‮!.. ‬فيها شعب،‮ ‬وأرض،‮ ‬وحكومة،‮ ‬ولكنها ليست‮ »‬دولة‮« ‬بالمعني الحقيقي لهذه الكلمة‮!‬ وليس من الممكن،‮ ‬أن يري المرء ما يدور في حياتنا،‮ ‬في أكثر من ركن،‮ ‬وفي أكثر من موقع،‮ ‬ثم لا يذكر يوسف إدريس،‮ ‬في الحال،‮ ‬أو لا يذكر ذلك العبقري‮ »‬ميرال‮« ‬الذي استطاع أن يصف أحوالنا،‮ ‬بدقة،‮ ‬وصدق،‮ ‬دون أن يرانا‮!‬ وليس من الممكن،‮ ‬أن نتابع قضية الصيادين المصريين المحتجزين في الصومال،‮ ‬ثم لا نذكر فوراً،‮ ‬ما كان يتمناه الدكتور إدريس،‮ ‬وما كان يقوله‮ »‬ميرال‮« ‬وكأنه كان يشير إلينا،‮ ‬ومعه الذين يرون ما يراه‮!‬

فعندنا‮ ‬38‮ ‬صياداً‮ ‬من بورسعيد،‮ ‬وكفر الشيخ ودمياط،‮ ‬مختطفين في قبضة قراصنة الصومال،‮ ‬منذ شهور،‮ ‬دون أن تتمكن الدولة،‮ ‬بكل هيلمانها،‮ ‬من فك أسرهم‮!‬ طبعاً‮.. ‬لابد أن نقر ـ هنا ـ بأن الخارجية المصرية كان لها دور مهم،‮ ‬في خفض مبلغ‮ ‬الفدية المطلوب من القراصنة،‮ ‬من‮ ‬5‮ ‬ملايين دولار،‮ ‬إلي‮ ‬800‮ ‬ألف دولار،‮ ‬وكان للخارجية أيضا دور لابد أن نذكره،‮ ‬في اتجاه محاولة الإفراج عن الصيادين،‮ ‬ولكن المشكلة أن دورها توقف،‮ ‬أو كاد،‮ ‬عند حدود خفض مبلغ‮ ‬الفدية‮.. ‬أو علي الأقل،‮ ‬هذا ما يبدو للناس،‮ ‬والمشكلة أيضاً‮ ‬أن المصريين بوجه عام،‮ ‬ثم أهالي الصيادين بوجه خاص،‮ ‬كان يحدوهم الأمل،‮ ‬في أن تتمكن الخارجية المصرية ـ وهي قادرة ـ من فك أسر المختطفين‮!‬ لا أشك لحظة،‮ ‬في صدق نوايا الوزير أحمد أبوالغيط،‮ ‬في تخليص المختطفين مما هم فيه،‮ ‬ولا أشك لحظة في أن الخارجية،‮ ‬بكل أجهزتها المتاحة،‮ ‬قد بذلت ما تستطيعه،‮ ‬ولكن علي الجانب الآخر،‮ ‬ليس معقولاً،‮ ‬أن يكون كل ما نستطيع أن نفعله،‮ ‬هو تخفيض الفدية،‮ ‬من‮ ‬5‮ ‬ملايين إلي‮ ‬800‮ ‬ألف دولار‮.. ‬فنحن نتكلم عن دولة بحجم مصر،‮ ‬ونتكلم عن وزارة خارجية بحجم الدولة التي ننتمي إليها،‮ ‬ونتكلم عن دولة ثم وزارة لهما بالتأكيد،‮ ‬تأثير في العمق الأفريقي،‮ ‬ولو بحكم ما كان لنا هناك،‮ ‬وليس بالضرورة بحكم ما هو كائن‮!‬ ومع ذلك،‮ ‬فليست هذه هي المشكلة الحقيقية‮.. ‬

فحقيقة الأمر،‮ ‬أن الحزن قد خيم علي كثيرين بيننا،‮ ‬حين اكتشفوا أن الدولة قد نفضت يدها تقريباً،‮ ‬من القضية،‮ ‬بدليل أن الأهالي يتفاوضون الآن،‮ ‬ومنذ فترة،‮ ‬علي تخليص صياديهم،‮ ‬وقد نجح التفاوض،‮ ‬كما قيل مؤخراً،‮ ‬في خفض الـ‮ ‬800‮ ‬ألفاً،‮ ‬إلي‮ ‬600‮ ‬ألف دولار‮!!‬ قبل ذلك،‮ ‬كان الأهالي أنفسهم،‮ ‬وخصوصا في كفر الشيخ،‮ ‬قد بدأوا في جمع المبلغ‮ ‬بالجهود الأهلية،‮ ‬وقيل إنهم نجحوا في جمع‮ ‬200‮ ‬ألف دولار،‮ ‬في دمياط،‮ ‬و66‮ ‬ألف جنيه في كفر الشيخ،‮ ‬ما يعني أن الصيادين يمكن أن يهلكوا هناك،‮ ‬قبل أن يتمكن أهاليهم من جمع المبلغ‮ ‬كاملاً‮.. ‬دولاراً‮ ‬وراء دولار‮.. ‬وجنيهاً‮ ‬وراء جنيه‮!‬ والحقيقة أن ما حدث،‮ ‬ولا يزال يحدث،‮ ‬نوع من العبث،‮ ‬لا ندري كيف سمحت الدولة بوجوده‮.. ‬فالمفترض أن تخليص هؤلاء المختطفين مسئولية الدولة التي ينتمون إليها،‮ ‬أولاً،‮ ‬وأخيراً،‮ ‬وليس مسئولية الأهالي علي الإطلاق،‮ ‬وإذا سمحت الدولة للأهالي بأن يخلصوا صياديهم،‮ ‬بطريقتهم الخاصة،‮ ‬فمعني هذا إقرار من الدولة،‮ ‬بأنها‮ ‬غير موجودة،‮ ‬وغير فعالة،‮ ‬وغير قادرة،‮ ‬مع أننا موجودة،‮ ‬وفعالة،‮ ‬وقادرة،‮ ‬وكل شيء‮..

‬ولكن ينقصها فقط أن تريد أن تكون بهذه الصفات‮!‬ ولا يمكن أبداً‮ ‬أن نتصور،‮ ‬أن تكون الدولة تتابع جهود الأهالي،‮ ‬ثم تتفرج وتسكت‮.. ‬لا يمكن‮.. ‬فهذا طعن مباشر،‮ ‬في هيبتها،‮ ‬كما أنه سحب مباشر من رصيدها في حياة مواطنيها‮.. ‬ولابد أن يصدر بيان سريع وعاجل،‮ ‬من الدولة،‮ ‬علي أي مستوي،‮ ‬يطلب من الأهالي أن يتوقفوا عما يفعلونه،‮ ‬وأن يهدأوا،‮ ‬لأن تخليص الصيادين مسئولية دولتهم وحدها،‮ ‬وهي مسئولية لا يجوز مطلقاً‮ ‬أن ينازعها فيها أحد‮!‬ كيف تقبل الدولة،‮ ‬علي نفسها،‮ ‬أن تقدم استقالتها من حياة أبنائها هكذا بسهولة،‮ ‬وعلي الملأ؟‮!‬ ما يحدث عيب كبير في حق الدولة،‮ ‬وفي حقنا جميعاً‮.. ‬فلا تتفرجوا عليه‮!‬

نقلا عن الوفد

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع