بقلم: كمال غبريال رغم أن التوجهات العالمية عموماً فيما بعد الحرب العالمية مباشرة كانت علمانية، سواء في الصف الرأسمالي، أو حتى الصف الاشتراكي، الذي اتخذ من الاشتراكية العلمية دستوراً (نصاً مقدساً) له، بما كان كفيلاً بقبول واستيعاب مختلف المكونات المجتمعية، بانتماءاتها العرقية والدينية والثقافية، ليعمل الجميع معاً على قدم المساواة، لتأسيس مستقبل مؤسس على النظرة العلمية للحياة، بغض النظر عما يستخلصه كل فريق من توجهات وأساليب، لتحقيق الواقع العقلاني العلماني، إلا أن الخلاف بين الطرفين، فيما يتعلق بإصرار الفكر الاشتراكي على تقسيم المجتمع إلى شعب وأعداء الشعب (حسب تعبير الخطاب الناصري)، قد أدي إلى تعثر المسيرة المشتركة للإنسانية، نحو الإعلاء من قيمة وحرية وحقوق الإنسان الفرد، وهي المسيرة التي بدأت منذ بداية القرن السادس عشر على الأقل. نستطيع إذن أن نقول أنه على المستوى العملي التطبيقي على الأقل، إن لم يكن على المستوى النظري أيضاً، لعب الفكر والتطبيق الاشتراكي دور أحجار عثرة، تحاول إعاقة مسرى تيار الحضارة الإنسانية، التي زعمنا أن توجهها العام كان باتجاه الإعلاء من القيم الحرية والعدالة والمساواة لكل البشر، بغض النظر عن انتماءاتهم الطبقية أو العرقية أو الثقافية أو الدينية. فاقم من تأثير هذا التعويق أيضاً، والذي تركز في تقسيم المجتمعات إلى فئة واحدة ناجية من النار، وفئات عديدة ضالة وهالكة لا محالة، أن فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، كانت فترة الاستقلال الوطني، للعديد من الشعوب، وقيام أنظمة حكم راديكالية فيها، تقوم في الأغلب على حكم العسكر، الذين اتخذوا من الاشتراكية أساساً نظرياً وتطبيقياً لهم، وواجهوا في نفس الوقت أعداء لهم ولحكمهم، سواء من جماعات مغامرين أخرى تنازعهم السلطة، أو من كيانات وانتماءات فسيفسائية لأقليات، كانت منضوية ضمن التقسيمات السياسية لتلك الأوطان حديثة الاستقلال، أو بالأحرى حديثة التواجد بشكلها وحدودها ككيان مستقل. . كانت تلك الحالة هي النموذج المتكرر في جميع دول المعسكر الاشتراكي، وفي العالم الثالث المكون من الدول حديثة الاستقلال، والتي أمسك بزمامها إما العسكر، أو قادة منظمات راديكالية يسارية. . ولم يكد يخلو كيان من هذه الكيانات، من قطاعات عريضة من شعوبها، تدخل تحت تصنيف أعداء الشعب، محل التوجس والعداء، وبالتالي لابد من وضعهم تحت الحصار أو حتى تهميشهم. . ولما كانت مصر في الربع الثالث من القرن العشرين نموذجاً لتلك الكيانات الراديكالية، فقد كان من الطبيعي أن يجد الأقباط أنفسهم في موقف أعداء الثورة، أو على الأقل المشكوك في ولائهم للثورة وقادتها، خاصة وأنها قد رفعت شعار الانتماء إلى أمة عربية واحدة، من أهم مقوماتها وحدة الدين الإسلامي، والأقباط بالطبع ليسوا بعرب، كما أنهم ليسوا بمسلمين!! كانت مسيرة البشرية حسب تصورنا تتجه نحو العدالة والحرية والمساواة، ولم يكن الفكر والتطبيق الاشتراكي أكثر من عقبات، سرعان مازالت من طريق البشرية، بالفشل الذريع والمدوي لتك الكتلة، التي انهارت بطريقة تبدو مفاجئة ودراماتيكية، بالتحديد عام 1989، رغم أن الحقيقة أن المعسكر الاشتراكي كان قد توفى إكلينيكياً قبل ذلك بسنوات، جراء أمراضه الداخلية والهيكلية، إلا أنه ظل لفترة متظاهراً بالبقاء على قيد الحياة، منتظراً مساً خفيفاً، لينهار في مكانه، كتمثال من الحجر سقط فجأة على وجهه. كان ما يسميه البعض بالصحوة الإسلامية ينتظر الفرصة، لينفرد بلقب "الضد للحضارة" بلا منازع. . وقد اتخذ لوحش الجديد من جثة سلفه المقبور غذاء يعتاش عليه، فقد كانت كثير من العوامل التي ذكرناها في السطور السابقة، على أنها وراء تقسيم الناس إلى فريقين، مازالت تحتل مكانها ومكانتها في واقع أكثر الشعوب تخلفاً، كل ما جرى من تغيير هو استخدام مصطلحات التأسلم السياسي، بدلاً من المصطلحات الاشتراكية، فحل التفسير والفهم المتعصب للدين الإسلامي، محل نظريات الماركسية عن الصراع الاجتماعي، وانتصار البروليتاريا وهيمنها على كل العالم، فوجدنا صيحة "يا مسلمي العالم اتحدوا"، لتحل محل "يا عمال العالم اتحدوا"، وحل الحلم بالخلافة الإسلامية، بدلاً من حلم الأممية الاشتراكية. هكذا وجد الأقباط أنفسهم مرة أخرى، يواجهون هذه المرة وحش التعصب المتأسلم، بدعوى أنهم أعداء الله، وإن تفضل البعض من رموز هذا التيار، بمنحهم لقب أهل ذمة، ليعود بهم وبالتاريخ إلى أربعة عشر قرناً مضت، فكان أن تم طرد الأقباط خلال الخمسة عقود الأخيرة من القرن العشرين من الساحة، وهو ما سبق أن تناولناه في مقال سبق تلك الرحلة عبر تاريخ الأقباط في عالمنا المتغير. |
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع |
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا |
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا |
تقييم الموضوع: | الأصوات المشاركة فى التقييم: ١ صوت | عدد التعليقات: ١ تعليق |