كمال غبريال
بقلم: كمال غبريال
منذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين، بعد الحرب العالمية الثانية، انقسم العالم في ظل ما عرف بالحرب الباردة إلى معسكرين، معسكر الرأسمالية والليبرالية، الذي يؤمن بجدارة الفرد ورشادته، التي تؤدي إلى تحقيق ذاته، وفي نفس الوقت تفضي تلقائياً لصالح المجموع، باعتبارة مكون من كثرة من الأفراد كاملي الحقوق والأهلية. . في مقابل المعسكر الاشتراكي، الذي يبدأ من المجموع باعتبارة الوحدة محل الاعتبار، والفرد مجرد كسر منها، أو ترس في آلة متوهمة، تؤدي دورها في آلية، لتحقيق ما يتصور أنبياء الاشتراكية أنه هدف الجماعة ومصالحها، والتي تصوروا أيضاً أنها لابد أن تتحقق عن طريق هيمنة فئة ناجية من النار (على حد تعبير المتأسلمين) هي فئة العمال أو البروليتاريا، مع سحق فئة أخرى مماثلة للذين كفروا (بتعبير المتأسلمين أيضاً)، هي الرأسماليين والبرجوازيين أعداء الشعب، أو أعداء الطبقات الكادحة.
رغم أن التوجهات العالمية عموماً فيما بعد الحرب العالمية مباشرة كانت علمانية، سواء في الصف الرأسمالي، أو حتى الصف الاشتراكي، الذي اتخذ من الاشتراكية العلمية دستوراً (نصاً مقدساً) له، بما كان كفيلاً بقبول واستيعاب مختلف المكونات المجتمعية، بانتماءاتها العرقية والدينية والثقافية، ليعمل الجميع معاً على قدم المساواة، لتأسيس مستقبل مؤسس على النظرة العلمية للحياة، بغض النظر عما يستخلصه كل فريق من توجهات وأساليب، لتحقيق الواقع العقلاني العلماني، إلا أن الخلاف بين الطرفين، فيما يتعلق بإصرار الفكر الاشتراكي على تقسيم المجتمع إلى شعب وأعداء الشعب (حسب تعبير الخطاب الناصري)، قد أدي إلى تعثر المسيرة المشتركة للإنسانية، نحو الإعلاء من قيمة وحرية وحقوق الإنسان الفرد، وهي المسيرة التي بدأت منذ بداية القرن السادس عشر على الأقل.
نستطيع إذن أن نقول أنه على المستوى العملي التطبيقي على الأقل، إن لم يكن على المستوى النظري أيضاً، لعب الفكر والتطبيق الاشتراكي دور أحجار عثرة، تحاول إعاقة مسرى تيار الحضارة الإنسانية، التي زعمنا أن توجهها العام كان باتجاه الإعلاء من القيم الحرية والعدالة والمساواة لكل البشر، بغض النظر عن انتماءاتهم الطبقية أو العرقية أو الثقافية أو الدينية.
فاقم من تأثير هذا التعويق أيضاً، والذي تركز في تقسيم المجتمعات إلى فئة واحدة ناجية من النار، وفئات عديدة ضالة وهالكة لا محالة، أن فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، كانت فترة الاستقلال الوطني، للعديد من الشعوب، وقيام أنظمة حكم راديكالية فيها، تقوم في الأغلب على حكم العسكر، الذين اتخذوا من الاشتراكية أساساً نظرياً وتطبيقياً لهم، وواجهوا في نفس الوقت أعداء لهم ولحكمهم، سواء من جماعات مغامرين أخرى تنازعهم السلطة، أو من كيانات وانتماءات فسيفسائية لأقليات، كانت منضوية ضمن التقسيمات السياسية لتلك الأوطان حديثة الاستقلال، أو بالأحرى حديثة التواجد بشكلها وحدودها ككيان مستقل. .
هذه الحالة أوجدت واستدعت تطبيق فكر هيمنة واستئصال أو تهميش لقطاعات في تلك المجتمعات والشعوب، تحت مسميات تمتد على مساحة طيف واسع، لكن يمكن أن يجمعها كلها عنوان واحد هو "أعداء الشعب" أو "الذين كفروا"، ونستطيع أن نعدد من هؤلاء أصنافاً كثيرة مثل: البرجوازيين والمستغلين والمتآمرين على الثورة والأقليات التي تقاوم الاندماج في الهوية القومية أو الدينية للوطن، وتولدت بالطبع قائمة من الاتهامات الجاهزة والمعلبة لنشطاء وممثلي تلك الفئات، مثل الطابور الخامس، والمشككين في هوية الأمة أو أعداء دينها. . . . قائمة طويلة من الاتهامات والتصورات التي تم الترويج لها جماهيراً، تؤدي كلها إلى تهميش الأقليات والتوجس منها في أحسن الفروض، أو إلى معاداتها واضطهادها في أسوأها.
كانت تلك الحالة هي النموذج المتكرر في جميع دول المعسكر الاشتراكي، وفي العالم الثالث المكون من الدول حديثة الاستقلال، والتي أمسك بزمامها إما العسكر، أو قادة منظمات راديكالية يسارية. . ولم يكد يخلو كيان من هذه الكيانات، من قطاعات عريضة من شعوبها، تدخل تحت تصنيف أعداء الشعب، محل التوجس والعداء، وبالتالي لابد من وضعهم تحت الحصار أو حتى تهميشهم. . ولما كانت مصر في الربع الثالث من القرن العشرين نموذجاً لتلك الكيانات الراديكالية، فقد كان من الطبيعي أن يجد الأقباط أنفسهم في موقف أعداء الثورة، أو على الأقل المشكوك في ولائهم للثورة وقادتها، خاصة وأنها قد رفعت شعار الانتماء إلى أمة عربية واحدة، من أهم مقوماتها وحدة الدين الإسلامي، والأقباط بالطبع ليسوا بعرب، كما أنهم ليسوا بمسلمين!!
كانت مسيرة البشرية حسب تصورنا تتجه نحو العدالة والحرية والمساواة، ولم يكن الفكر والتطبيق الاشتراكي أكثر من عقبات، سرعان مازالت من طريق البشرية، بالفشل الذريع والمدوي لتك الكتلة، التي انهارت بطريقة تبدو مفاجئة ودراماتيكية، بالتحديد عام 1989، رغم أن الحقيقة أن المعسكر الاشتراكي كان قد توفى إكلينيكياً قبل ذلك بسنوات، جراء أمراضه الداخلية والهيكلية، إلا أنه ظل لفترة متظاهراً بالبقاء على قيد الحياة، منتظراً مساً خفيفاً، لينهار في مكانه، كتمثال من الحجر سقط فجأة على وجهه.
هو الانتصار الحتمي لموكب الإنسانية الصاعد دوماً، من قمة لقمة أعلى، رغم أنه قد يضطر أحياناً إلى عبور وديان وأخاديد، بل وقد يسقط لبعض الوقت في حفر لا يعدم في مسيرته الكثير منها، وقد كانت الإنسانية بالفعل على موعد مع هاوية قديمة جديدة، لم تلبث أن ظهرت معالمها، وفغرت فاها كاشفة عن أنيابها، فور خلو الساحة من المعسكر الاشتراكي الذي انهار.
كان ما يسميه البعض بالصحوة الإسلامية ينتظر الفرصة، لينفرد بلقب "الضد للحضارة" بلا منازع. . وقد اتخذ لوحش الجديد من جثة سلفه المقبور غذاء يعتاش عليه، فقد كانت كثير من العوامل التي ذكرناها في السطور السابقة، على أنها وراء تقسيم الناس إلى فريقين، مازالت تحتل مكانها ومكانتها في واقع أكثر الشعوب تخلفاً، كل ما جرى من تغيير هو استخدام مصطلحات التأسلم السياسي، بدلاً من المصطلحات الاشتراكية، فحل التفسير والفهم المتعصب للدين الإسلامي، محل نظريات الماركسية عن الصراع الاجتماعي، وانتصار البروليتاريا وهيمنها على كل العالم، فوجدنا صيحة "يا مسلمي العالم اتحدوا"، لتحل محل "يا عمال العالم اتحدوا"، وحل الحلم بالخلافة الإسلامية، بدلاً من حلم الأممية الاشتراكية.
هكذا وجد الأقباط أنفسهم مرة أخرى، يواجهون هذه المرة وحش التعصب المتأسلم، بدعوى أنهم أعداء الله، وإن تفضل البعض من رموز هذا التيار، بمنحهم لقب أهل ذمة، ليعود بهم وبالتاريخ إلى أربعة عشر قرناً مضت، فكان أن تم طرد الأقباط خلال الخمسة عقود الأخيرة من القرن العشرين من الساحة، وهو ما سبق أن تناولناه في مقال سبق تلك الرحلة عبر تاريخ الأقباط في عالمنا المتغير.
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=1674&I=45