CET 09:41:22 - 08/01/2010

مقالات مختارة

بقلم: صلاح الدين محسن

بمجرد أن بدأت في نشر مقالاتي علي الانترنت قبيل منتصف عام 2005 . اعتدت من وقت لآخر علي سماع صوت يأتيني علي التليفون من سويسرا . لرجل عجوز يكبر والدي ب 6 سنوات ، ولكنه صوت مهذب مفعم بالقوة والوقار :
- صلاح بيه .. ، ازيك يا صلاح بيه . "عدلي أبادير" معاك .
- أهلا يا باشمهندس ..لعلك تكون بخير .
- الحمد لله . أشكرك علي مقال .. ( ويذكر لي اسم المقال الذي أعجبه ) .
لم تكن هناك سابق معرفة بيننا ، في ذلك الوقت . ولكنني في البداية كنت قد عرفت وحسب أنه صاحب أحد المواقع الأربعة . التي كانت مقالاتي تنشر فيها في وقت واحد . – الحوار المتمدن ، وايلاف ، وموقع آشوري – يصدر بالعربية - . و كذلك موقع المهندس عدلي أبادير " الأقباط متحدون " . وهو الموقع الذي كان يثير حساسية السلطات بمصر بشكل أساسي ، وكانت الأعين مسلطة عليه حتي من قراء باقي الدول الناطقة بالعربية . لذا كان هناك من يتصورون أنني أكتب مقالاتي فقط لهذا الموقع ..! . والحقيقة أن نفس المقالات – بل أكثر منها - كانت تنشر لي بالمواقع الأخري وخاصة موقع الحوار المتمدن . .. و قبل ذلك بأكثر من عشرين سنة ، كتبي التي طبعتها مصر علي نفقتي الخاصة . كانت تحمل نفس الأفكار ، علي ذات المنوال ..
- صارت صداقة بيننا .، واعتدت علي تلقي المكالمات التليفونية للمهندس عدلي أبادير . – وغالبا ما يكون معه علي الخط الأستاذ مدحت قلادة – الكاتب ، والمسؤول بالموقع . والمقرب جدا منه - .
- كثيرا ما تناقش معي . في بعض مقالاتي . ذات مرة قال لي " انا قرأت المقال 3 مرات " ..! ولم أكن أصدق الا بعد أن يمضي في مناقشة التفاصيل وباسهاب .. يومئذ كان قد بلغ من العمر 86 عاما ..! وما كان يدهشني أكثر . ذاكرته الحافظة للأحداث والتاريخ السياسي الحديث وما يتمتع به من الوعي العالي . وسرعة البديهة .
أحيانا كان الحديث يطول بيننا ويتشعب ، فأتطرق لموضوع كتبت عنه بموقع الحوار المتمدن ، وأكلمه عنه . فيسألني : " لم اقرأ
هذا المقال .. ! لماذا لم تنشره عندنا ؟ فأجيبه . هناك مقالات لا تصلح لموقعكم ، فأنا أكتب في أشياء كثيرة مختلفة . بعضها لا أراها تصلح لموقعكم . . فأنشرها بموقع الحوار المتمدن " .. فيرد بصدق و حماس : " بل ارسلها .. حتي ولو أقرأها أنا .."
هنا كنت أشعر بحق انني أمام قاريء جيد . رغم بلوغه لهذا العمر المتقدم .. ! ..

كان يحمل عقلية علمانية بالدرجة الأولي . وان كان موقعه يحمل اسما طائفيا .. فمن الطبيعي أن يتألم الانسان لأوجاع طائفته وأسرته أولا ، ومنها يتألم لآلام وطنه ويعبر عن مشاكل وطنه .. فكثيرا ما لا يمكن الفصل بين هم الفرد وهموم الوطن ، ولا هم الطائفة وهموم الوطن ككل ..

عندما حاربه اعلام النظام العسكري في مصر، بضراوة لمنعه من عقد مؤتمر عن اضطهاد المسيحيين بمصر ، واتهمه بالعمالة والخيانة ، صعد " المهندس عدلي " القضية لتشمل : مسيحيي الشرق الأوسط – فأجهزة الأنظمة الفاسدة بالمنطقة يريحها التعميم عند انتقادها ، وكأن التعميم يبعد عنها الاتهام .. بفعل الزحام - .! ( فعندهم أن تتكلم عن اضطهاد مسيحيي الشرق الأوسط ، أخف من أن تتكلم عن اضطهاد مسيحيي مصر وحدها ، .. وهكذا الحال بالنسبة لباقي القضايا ) !
وجاء ذلك لصالح مسيحيي الشرق الأوسط جميعهم . اذا أقيم لهم مؤتمر دولي يعرض قضاياهم ..
وعندما لم تتوقف الحملة ضده . ضاعف تعمم نشاط مؤتمره اللاحق ووسع دائرته أكثر . لتشمل حقوق ومشاكل أقليات الشرق الأوسط وشمال افريقيا – الدينية والعرقية ، والمعارضات السياسية - . فكان لصالح العديد ممن لم يكن أحد يسمع أصواتهم . ففي مؤتمر زيورخ 2007 - حيث حضرته - رأيت وتعرفت علي ممثلين لكافة اديان وطوائف واعراق وسياسات الشرق الاوسط وشمال افريقيا ، وجنوب السودان أيضا ..

دعاني عدة مرات لحضور المؤتمرات . أحدها – لعله مؤتمر واشطن - اعتذرت لظروف خاصة . وأرسلت بكلمتي للمؤتمر ، فألقاها بنفسه ، بأفضل مما كان يمكنني أن ألقيها ...

ضحكت كثيرا عندما قال لي في احدي المرات " مدحت ( يقصد : أ . مدحت قلادة ) طبع مقال لك وراح علقه في الكنيسة " ..! أضحك كلما أتذكر ذلك لأنني كتبت مقالاتي دون تخيل امكانية أن تعلق يوما بأي معبد من المعابد .. المقال . حسبما أتذكر هو " رسالة الي الله " منشور في 9-8- 2005 بموقع الحوار المتمدن .

كان يضحك عندما أستقبل صوته علي التليفون . بالقول : أهلا بالمناضل الشاب العنيد ..

يبدو أن " المهندس عدلي " لم يكن يصدق ، و يظنني كنت أجامله . عندما أبدي له . بدوري اعجابي بأحاديثه المصورة التي يذيعها موقعه ، وبكتاباته الموجزة والقليلة . بقدر اعجابه بمقالاتي . لما في أحاديثه من صراحة وتحليل ووعي سياسي فائق ..:
وها أنا أقولها بعد رحيله ..

لم أكن أقتنع باعتراض المعترضين علي أسلوبه . حيث كان يتكلم دون لجؤ لتعابير الدبلوماسيين ، ولا للغة مواربة الأبواب .. بل كان يتكلم كما ابن البلد – الصعيدي - الموجوع والمكتوي بآلام بلده .
- وحتي الأمس فقط – 4-1-2010 . عزاني في رحيله – تليفونيا – قاريء صديق . من مونتريال – علماني . مصري الأصل - . وأبدي أسفه لغيابه . وأثني عليه الا انه في مجمل الحديث .. تحفظ علي الطريقة التي كان يستخدمها في التعبير..
ونسي هؤلاء المعترضون علي طريقته في التعبير . أنه هكذا كان " عبد الناصر " يتكلم في خطاباته - والذي طالما صفقوا له وانبهروا به - ... اذ كان يشتم علنا في خطبه . الملوك والرؤساء المختلفين معه . كالملك فيصل والملك حسين ، والحبيب بورقيبة ، ومستر ايدن – رئيس وزراء بريطانيا ابان حرب السويس 1956 – ، وغيرهم .. وأحاديث عبد الناصر لم تكن داخلية محلية ... بل كانت عالمية . بحكم منصبه .
ولعل الفرق هو أن خطابات عبد الناصر كان فيها من العنترية والسعي للمجد الشخصي ، بأكثر مما فيها من الحرص علي مصلحة الوطن وكرامة وحياة المواطن . وكان عبد الناصر يخطب ويتعنتر في حماية جيش .. ، وحماية اجهزة خاصة ، وانظمة حليفة له بدول أخري ، قريبة وبعيدة ..

وقد حدثني عدلي ابادير . عن التهديدات الكثيرة بالقتل . التي تصله . والاحتياطات التي اضطر لاتخاذها . ولم تكن تزيد عن كاميرا تنقل له صورة الزائر القادم أمام باب مسكنه .. ! .

مؤتمر زيوريخ - سويسرا - لحقوق الانسان – مارس عام 2007 - هو آخر المؤتمرات التي عقدها " عدلي أبادير " – الرابع والأخير . كما كان واضحا - .
لذلك كانت مفجأة لي . انه في حديثه التليفوني معي . بعد ذاك المؤتمر بشهر تقريبا أو أكثر قليلا . قال لي انه ينوي عقد مؤتمر عن " الوهابية " ، وسألني عن رأيي في ترشيحه لاسمين عزيزين ، ليقوم أحدهما برئاسة هذا المؤتمر ..
أحسست انه يريد انتهاز الفرصة لمصالحة الكثيرين الذين غضبوا منه في المؤتمر الأخير . الا أن الظروف لم تساعد علي عقد ذاك المؤتمر . ثم دخل في رحلة المرض ، حتي وفاته مع مطلع هذا العام . ولعل الجميع قد غفروا .. مقدرين كبر السن . وأن لكل جواد كبوة . ومن غير المعقول أن تنسي حسنات جليلة . لخطأ واحد ! . فكل أقليات الشرق الأوسط وشمال افريقيا – الدينية والعرقية – لولا " عدلي أبادير" ربما لما سنحت لهم الفرصة لعرض قضاياهم هكذا علي الملأ ، و بذاك المستوي من العالمية .

عرفت اناسا يخيل لي انهم خلقوا من الفولاذ . و " عدلي أبادير " كان واحدا من هؤلاء .

أقدم عزائي لأقليات الشرق الأوسط وشمال افريقيا . لرحيل رجل ساعدهم علي رفع أصواتهم وعرض مظالمهم وشكاواهم أمام العالم . عزاءا لأسرته ومحبيه ، والعزاء الأكبر لمصر كلها .. لرحيل مناضل مصري ، محب لوطنه . دافع عن قضايا مصر والمصريين ضد الديكتاتورية والظلم والقهر . وداعية لقيام نظام علماني ، للنهوض بالبلاد والسير بها علي طريق الدول التي نمت وتقدمت ..
وداعا المناضل الشاب العنيد " عدلي أبادير " .
---
ملحوظة : المقال مرسل لموقع " الحوار المتمدن " فقط .- ويرجي الاشارة للمصدر عند اعادة النشر . مع الشكر .
5 يناير 2010 .

نقلا عن الحوار المتمدن

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٠ صوت عدد التعليقات: ٠ تعليق

خيارات

فهرس القسم
اطبع الصفحة
ارسل لصديق
اضف للمفضلة

جديد الموقع