وداعا .. عدلي ابادير

بقلم: صلاح الدين محسن

بمجرد أن بدأت في نشر مقالاتي علي الانترنت قبيل منتصف عام 2005 . اعتدت من وقت لآخر علي سماع صوت يأتيني علي التليفون من سويسرا . لرجل عجوز يكبر والدي ب 6 سنوات ، ولكنه صوت مهذب مفعم بالقوة والوقار :
- صلاح بيه .. ، ازيك يا صلاح بيه . "عدلي أبادير" معاك .
- أهلا يا باشمهندس ..لعلك تكون بخير .
- الحمد لله . أشكرك علي مقال .. ( ويذكر لي اسم المقال الذي أعجبه ) .
لم تكن هناك سابق معرفة بيننا ، في ذلك الوقت . ولكنني في البداية كنت قد عرفت وحسب أنه صاحب أحد المواقع الأربعة . التي كانت مقالاتي تنشر فيها في وقت واحد . – الحوار المتمدن ، وايلاف ، وموقع آشوري – يصدر بالعربية - . و كذلك موقع المهندس عدلي أبادير " الأقباط متحدون " . وهو الموقع الذي كان يثير حساسية السلطات بمصر بشكل أساسي ، وكانت الأعين مسلطة عليه حتي من قراء باقي الدول الناطقة بالعربية . لذا كان هناك من يتصورون أنني أكتب مقالاتي فقط لهذا الموقع ..! . والحقيقة أن نفس المقالات – بل أكثر منها - كانت تنشر لي بالمواقع الأخري وخاصة موقع الحوار المتمدن . .. و قبل ذلك بأكثر من عشرين سنة ، كتبي التي طبعتها مصر علي نفقتي الخاصة . كانت تحمل نفس الأفكار ، علي ذات المنوال ..
- صارت صداقة بيننا .، واعتدت علي تلقي المكالمات التليفونية للمهندس عدلي أبادير . – وغالبا ما يكون معه علي الخط الأستاذ مدحت قلادة – الكاتب ، والمسؤول بالموقع . والمقرب جدا منه - .
- كثيرا ما تناقش معي . في بعض مقالاتي . ذات مرة قال لي " انا قرأت المقال 3 مرات " ..! ولم أكن أصدق الا بعد أن يمضي في مناقشة التفاصيل وباسهاب .. يومئذ كان قد بلغ من العمر 86 عاما ..! وما كان يدهشني أكثر . ذاكرته الحافظة للأحداث والتاريخ السياسي الحديث وما يتمتع به من الوعي العالي . وسرعة البديهة .
أحيانا كان الحديث يطول بيننا ويتشعب ، فأتطرق لموضوع كتبت عنه بموقع الحوار المتمدن ، وأكلمه عنه . فيسألني : " لم اقرأ
هذا المقال .. ! لماذا لم تنشره عندنا ؟ فأجيبه . هناك مقالات لا تصلح لموقعكم ، فأنا أكتب في أشياء كثيرة مختلفة . بعضها لا أراها تصلح لموقعكم . . فأنشرها بموقع الحوار المتمدن " .. فيرد بصدق و حماس : " بل ارسلها .. حتي ولو أقرأها أنا .."
هنا كنت أشعر بحق انني أمام قاريء جيد . رغم بلوغه لهذا العمر المتقدم .. ! ..

كان يحمل عقلية علمانية بالدرجة الأولي . وان كان موقعه يحمل اسما طائفيا .. فمن الطبيعي أن يتألم الانسان لأوجاع طائفته وأسرته أولا ، ومنها يتألم لآلام وطنه ويعبر عن مشاكل وطنه .. فكثيرا ما لا يمكن الفصل بين هم الفرد وهموم الوطن ، ولا هم الطائفة وهموم الوطن ككل ..

عندما حاربه اعلام النظام العسكري في مصر، بضراوة لمنعه من عقد مؤتمر عن اضطهاد المسيحيين بمصر ، واتهمه بالعمالة والخيانة ، صعد " المهندس عدلي " القضية لتشمل : مسيحيي الشرق الأوسط – فأجهزة الأنظمة الفاسدة بالمنطقة يريحها التعميم عند انتقادها ، وكأن التعميم يبعد عنها الاتهام .. بفعل الزحام - .! ( فعندهم أن تتكلم عن اضطهاد مسيحيي الشرق الأوسط ، أخف من أن تتكلم عن اضطهاد مسيحيي مصر وحدها ، .. وهكذا الحال بالنسبة لباقي القضايا ) !
وجاء ذلك لصالح مسيحيي الشرق الأوسط جميعهم . اذا أقيم لهم مؤتمر دولي يعرض قضاياهم ..
وعندما لم تتوقف الحملة ضده . ضاعف تعمم نشاط مؤتمره اللاحق ووسع دائرته أكثر . لتشمل حقوق ومشاكل أقليات الشرق الأوسط وشمال افريقيا – الدينية والعرقية ، والمعارضات السياسية - . فكان لصالح العديد ممن لم يكن أحد يسمع أصواتهم . ففي مؤتمر زيورخ 2007 - حيث حضرته - رأيت وتعرفت علي ممثلين لكافة اديان وطوائف واعراق وسياسات الشرق الاوسط وشمال افريقيا ، وجنوب السودان أيضا ..

دعاني عدة مرات لحضور المؤتمرات . أحدها – لعله مؤتمر واشطن - اعتذرت لظروف خاصة . وأرسلت بكلمتي للمؤتمر ، فألقاها بنفسه ، بأفضل مما كان يمكنني أن ألقيها ...

ضحكت كثيرا عندما قال لي في احدي المرات " مدحت ( يقصد : أ . مدحت قلادة ) طبع مقال لك وراح علقه في الكنيسة " ..! أضحك كلما أتذكر ذلك لأنني كتبت مقالاتي دون تخيل امكانية أن تعلق يوما بأي معبد من المعابد .. المقال . حسبما أتذكر هو " رسالة الي الله " منشور في 9-8- 2005 بموقع الحوار المتمدن .

كان يضحك عندما أستقبل صوته علي التليفون . بالقول : أهلا بالمناضل الشاب العنيد ..

يبدو أن " المهندس عدلي " لم يكن يصدق ، و يظنني كنت أجامله . عندما أبدي له . بدوري اعجابي بأحاديثه المصورة التي يذيعها موقعه ، وبكتاباته الموجزة والقليلة . بقدر اعجابه بمقالاتي . لما في أحاديثه من صراحة وتحليل ووعي سياسي فائق ..:
وها أنا أقولها بعد رحيله ..

لم أكن أقتنع باعتراض المعترضين علي أسلوبه . حيث كان يتكلم دون لجؤ لتعابير الدبلوماسيين ، ولا للغة مواربة الأبواب .. بل كان يتكلم كما ابن البلد – الصعيدي - الموجوع والمكتوي بآلام بلده .
- وحتي الأمس فقط – 4-1-2010 . عزاني في رحيله – تليفونيا – قاريء صديق . من مونتريال – علماني . مصري الأصل - . وأبدي أسفه لغيابه . وأثني عليه الا انه في مجمل الحديث .. تحفظ علي الطريقة التي كان يستخدمها في التعبير..
ونسي هؤلاء المعترضون علي طريقته في التعبير . أنه هكذا كان " عبد الناصر " يتكلم في خطاباته - والذي طالما صفقوا له وانبهروا به - ... اذ كان يشتم علنا في خطبه . الملوك والرؤساء المختلفين معه . كالملك فيصل والملك حسين ، والحبيب بورقيبة ، ومستر ايدن – رئيس وزراء بريطانيا ابان حرب السويس 1956 – ، وغيرهم .. وأحاديث عبد الناصر لم تكن داخلية محلية ... بل كانت عالمية . بحكم منصبه .
ولعل الفرق هو أن خطابات عبد الناصر كان فيها من العنترية والسعي للمجد الشخصي ، بأكثر مما فيها من الحرص علي مصلحة الوطن وكرامة وحياة المواطن . وكان عبد الناصر يخطب ويتعنتر في حماية جيش .. ، وحماية اجهزة خاصة ، وانظمة حليفة له بدول أخري ، قريبة وبعيدة ..

وقد حدثني عدلي ابادير . عن التهديدات الكثيرة بالقتل . التي تصله . والاحتياطات التي اضطر لاتخاذها . ولم تكن تزيد عن كاميرا تنقل له صورة الزائر القادم أمام باب مسكنه .. ! .

مؤتمر زيوريخ - سويسرا - لحقوق الانسان – مارس عام 2007 - هو آخر المؤتمرات التي عقدها " عدلي أبادير " – الرابع والأخير . كما كان واضحا - .
لذلك كانت مفجأة لي . انه في حديثه التليفوني معي . بعد ذاك المؤتمر بشهر تقريبا أو أكثر قليلا . قال لي انه ينوي عقد مؤتمر عن " الوهابية " ، وسألني عن رأيي في ترشيحه لاسمين عزيزين ، ليقوم أحدهما برئاسة هذا المؤتمر ..
أحسست انه يريد انتهاز الفرصة لمصالحة الكثيرين الذين غضبوا منه في المؤتمر الأخير . الا أن الظروف لم تساعد علي عقد ذاك المؤتمر . ثم دخل في رحلة المرض ، حتي وفاته مع مطلع هذا العام . ولعل الجميع قد غفروا .. مقدرين كبر السن . وأن لكل جواد كبوة . ومن غير المعقول أن تنسي حسنات جليلة . لخطأ واحد ! . فكل أقليات الشرق الأوسط وشمال افريقيا – الدينية والعرقية – لولا " عدلي أبادير" ربما لما سنحت لهم الفرصة لعرض قضاياهم هكذا علي الملأ ، و بذاك المستوي من العالمية .

عرفت اناسا يخيل لي انهم خلقوا من الفولاذ . و " عدلي أبادير " كان واحدا من هؤلاء .

أقدم عزائي لأقليات الشرق الأوسط وشمال افريقيا . لرحيل رجل ساعدهم علي رفع أصواتهم وعرض مظالمهم وشكاواهم أمام العالم . عزاءا لأسرته ومحبيه ، والعزاء الأكبر لمصر كلها .. لرحيل مناضل مصري ، محب لوطنه . دافع عن قضايا مصر والمصريين ضد الديكتاتورية والظلم والقهر . وداعية لقيام نظام علماني ، للنهوض بالبلاد والسير بها علي طريق الدول التي نمت وتقدمت ..
وداعا المناضل الشاب العنيد " عدلي أبادير " .
---
ملحوظة : المقال مرسل لموقع " الحوار المتمدن " فقط .- ويرجي الاشارة للمصدر عند اعادة النشر . مع الشكر .
5 يناير 2010 .

نقلا عن الحوار المتمدن

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع