CET 08:31:13 - 30/12/2009

مقالات مختارة

بقلم: خيري شلبي

في‮ ‬عيد ميلاد صلاح جاهين  
كلما اقترب عيد ميلاد صلاح جاهين تعتريني‮ ‬حالة من الأنس والبهجة‮ ‬يصير قلبي‮ ‬مفعما بالمودة الحميمة تجاه كل البشر ومع كافة الأشياء،‮ ‬سرعان ما استشعر الدفء الإنساني‮ ‬الذي‮ ‬كان‮ ‬يصبغه علي الحياة المصرية بحضوره القوي‮ ‬الفعال،‮ ‬فما بالك بمن اقتربوا من شخصه عن كثب وطوال عمر كامل؟ لقد شرفت بأن أكون واحداً‮ ‬من اولئك الذين شملهم بعطفه ورعايته،‮ ‬فأتيح لي‮ ‬أن أراه جيداً،‮ ‬فإذا بشخصيته مهرجان من حدائق وحقول قمح وقطن وبرسيم مترامية الأطراف،‮ ‬ومدائن نظيفة واضحة المعالم والشوارع تلعلط بضوء رباني‮ ‬تتفتح علي صفحاته الألوان والزهور،‮ ‬تترادف المآذن والأبراج والقباب،‮ ‬لقد كانت أشعار صلاح جاهين ورسوماته وأغنياته وسيناريوهاته وأوبريتاته وأزجاله وفوازيره المركبة الفذة كل ذلك كانت اشارات ورسالات وبيانات مبعوثة من مدينة فاضلة داخل صلاح جاهين،‮ ‬حتي الرئيس الذي‮ ‬غني له باسم الشعب وساعده علي توسيع أفق الأمل في‮ ‬غد مأمول كان صورة من رئيس مدينته الفاضلة حاولت الأغنيات الثورية تقريبها من الواقع،‮ ‬لعلهما معا،‮ ‬الرئيس والواقع،‮ ‬يرتفعان بالبلاد الي مستوي المدنية‮ - ‬الحلم‮.‬

وكان في‮ ‬جداله الدائم مع الواقع الراهن‮ ‬يدرك‮ - ‬ويشعرنا بأنه‮ ‬يدرك‮ - ‬أن حلمه الثوري‮ ‬علي‮ ‬شفي الاجهاض إن لم‮ ‬يكن قد أجهض بالفعل،‮ ‬فكان في‮ ‬قصائده‮ - ‬التي‮ ‬هي‮ ‬بمثابة بياناته الخاصة‮ - ‬يوجه سهام النقد العنيف للثورة ولزعيمها،‮ ‬علي شفرة موصولة بقرائه وعشاق شعره ورسمه وشخصه،‮ ‬يعرفون علي ضوئها المبثوث في‮ ‬القصائد والأغنيات ان الزعيم الذي‮ ‬يغني‮ ‬له ليس بالضرورة الزعيم جمال عبد الناصر،‮ ‬إنما هو زعيم مأمول لثورة تبناها الشاعر كدعامة لحلم الشعب المصري‮ ‬بمدنية فيها عدالة اجتماعية ويعمها الوئام والأمن والسلام‮.‬ وحين نعود الي قصائد صلاح جاهين التي‮ ‬كتبها ونشرها في‮ ‬عز التسلط‮ "‬الثوري‮" ‬نجدها تكاد تكون بيانات ثورة مضادة مع انها شعر خالص،‮ ‬الا انه شعر ملئ بالأسي،‮ ‬وبالتحريض الصريح علي‮ ‬المقاومة،‮ ‬ناهيك عن أزجاله الصحفية التي‮ ‬فضح فيها الفساد والإهمال،‮ ‬والظواهر الاجتماعية المرفوضة،‮ ‬وفشل المشروع السياسي‮ ‬للثورة‮.‬

ولكن صلاح جاهين الذي‮ ‬أوتي قدرة فذة علي الجمع بين الامتاع والمؤانسة في‮ ‬كل ما‮ ‬يكتب ويرسم ويمثل من أدوار في‮ ‬بعض الأفلام او‮ ‬يشارك مع الكورس في‮ ‬الغناء او‮ ‬يغني‮ ‬بصوته‮ ‬غير الموسيقي‮.. ‬استطاع أن‮ ‬يجمع كذلك بين القديس والفنان في‮ ‬شخصيته التي‮ ‬لا شك في‮ ‬أن الله قد فطرها علي النقاء الإنساني‮ ‬فجاءت نفسا صافية بقلب سليم،‮ ‬من نفس قماشة نفوس الرسل والصديقين،‮ ‬دوره‮ - ‬دورها‮ - ‬في‮ ‬الحياة أن‮ ‬يكون مصباح ضوء وشعلة حماسة من أجل تجديد الحياة وتنقية النفوس،‮ ‬وتوعية العقول عسي أن‮ ‬يرتقي‮ ‬الإنسان الي المرتبة التي‮ ‬تليق بأن‮ ‬يكون بالفعل ابنا لله وممثلاً‮ ‬لإرادته العليا في‮ ‬تعمير الكون،‮ ‬ونفس صلاح جاهين‮ - ‬بصفائها وسلامة قلبها وعلوها علي كل ما هو رخيص في‮ ‬الحياة‮ - ‬قد حباها الله بموهبة فنية شمولية‮ ‬توازي‮ ‬حجم محتواه الإنساني،‮ ‬يكتب الشعر والازجال والاغنيات والاوبريتات والأفلام والمسلسلات والفوازير،‮ ‬ويرسم رسوما تضارع الطبيعة في‮ ‬دقة تفاصيلها وألوانها إذ هي‮ - ‬برغم الكاريكاتيرية‮ - ‬رسوم قصائد،‮ ‬رسوم تشعر وتنفعل وتحتد وتتكلم وهي صافية،‮ ‬ويمثل‮.. ‬
فإذا بكل هذه الامكانيات الذاتية،‮ ‬وإذا بكل هذه الأشكال الفنية المتنوعة،‮ ‬تجئ تمثيلاً‮ ‬لما تمتلئ به نفسه من رسالات وبيانات ودروس وعبر وتحذيرات‮ - ‬وتوجيهات نحو المسالك السالكة الي الخير والحب والسلام والتقدم‮.‬ لم‮ ‬يهدر صلاح جاهين برهة واحدة من عمره في‮ ‬شيء تافه‮ ‬غير مفيد لبني وطنه وللإنسانية كافة،‮ ‬لقد استطاع‮ - ‬بنجاح تاريخي‮ ‬منقطع النظير‮ - ‬أن‮ ‬يشخص القيم النبيلة في‮ ‬أهازيج وأراجيز وطقاطيق‮ ‬غنائية فكأنه خلق للقيم النبيلة سوقاً‮ ‬رائجة بغير تجارة‮.‬

صلاح جاهين فنان ملهم في‮ ‬جده ومزاحه،‮ ‬بل لعله في‮ ‬مزاحه،‮ ‬أي‮ ‬في‮ ‬فكاهاته،‮ ‬أشد منه في‮ ‬جديته،‮ ‬فشكل المزاح‮ ‬يوسع من دائرة الفكاهة،‮ ‬والفكاهة تبيح الجرأة في‮ ‬القفش والانتقاد والسخرية‮ - ‬معلهش النكتة حكمت‮ - ‬فإذا بالصورة الكاريكاتيرية تقول رأيا أو تدلي‮ ‬بوجهة نظر في‮ ‬موضوع أو في‮ ‬ظاهرة أو في‮ ‬مشكلة ما،‮ ‬قد تعجز مقالة من عشر صفحات بأسلوب بليغ‮ ‬عن أحداث التأثير الايجابي‮ ‬الذي‮ ‬تحدثه الصورة الكاريكاتيرية،‮ ‬سيما وصلاح‮ ‬يضفي‮ ‬علي الصورة طابعاً‮ ‬واقعيا صرفا حيث الامهات المصريات‮ ‬يلبسن جلباب البيت ذا النقشة الحميمة،‮ ‬وكذلك المقاعد والأشياء كأنها بصمات للواقع المعاش،‮ ‬إنه لبارع في‮ ‬تحويل الرسماية من خطوط تبرز المفارقة المطلوب تضخيمها وجعلها مثارا للسخرية،‮ ‬الي مشهد تشكيلي‮ ‬كامل بواقعية شعبية صرفة،‮ ‬ظاهرة في‮ ‬شكل الراديو والقلة والطبلية والحصير‮.. ‬الخ،‮
‬فقارئ الصورة‮ ‬يضحك قبل أن‮ ‬يقرأ التعليق،‮ ‬يضحك لأن المفارقة المطلوب التنبيه اليها قد تم تشخيصها في‮ ‬الرسم بوضوح لدرجة أن القارئ‮ ‬يستطيع النطق بالعبارة المطابقة لما في‮ ‬الصورة من انفعال وحركة،‮ ‬ذلك أن صلاح‮ ‬يرسم الحركة فحين تري الصورة‮ ‬يخيل إليك أن هذا الرجل الذي‮ ‬يمشي،‮ ‬يمشي‮ ‬بالفعل،‮ ‬فالحركة مستمرة في‮ ‬عين القارئ رغم سكونها علي الورق،‮ ‬وإذاً‮ ‬فإنه‮ ‬يصفع البيئة الفنية التي‮ ‬تجعل من النكتة العابرة فكرة تبقي في‮ ‬ذهن القارئ لاتني‮ ‬تتطور وتتفتح وتلهم أفكاراً‮ ‬وخواطر ذات شجون‮.‬

المدهش حقاً‮ ‬أن هذا الشاعر الفنان الفيلسوف الذي‮ ‬انطلق في‮ ‬حياتنا كالضوء معبراً‮ ‬عن نفسه عن شعبه عن حلم العدالة بكل هذه الاشكال الفنية المتنوعة،‮ ‬الذي‮ ‬بعث فينا البهجة والأنس والإمتاع عصراً‮ ‬بأكمله‮ ‬يقارب نصف قرن من الزمان‮.. ‬كان‮ ‬يشعر في‮ ‬قرارة قلبه بأنه سجين،‮ ‬يتوق الي الحرية،‮ ‬يراوده السأم فيثقل عليه أحيانا الي حد‮ ‬يصيبه بالحزن العميق،‮ ‬هل هو اغتراب فلسفي؟ ربما هل هو شعور بالصدمة في‮ ‬الثورة الحلم التي‮ ‬انهزمت وأرجعت البلاد الي‮ ‬اختلال أبغض مما تحررت منه؟ وربما هل هو شعور بعدم القدرة علي التواؤم مع عهد سياسي‮ ‬قام علي الزيف والتواطؤ علي المتاجرة بمصير البلاد؟ ربما‮.‬  
 
نقلا عن الوفد

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٠ صوت عدد التعليقات: ٠ تعليق

خيارات

فهرس القسم
اطبع الصفحة
ارسل لصديق
اضف للمفضلة

جديد الموقع