فارس وحيد جوّه الدروع الحديد

بقلم: خيري شلبي

في‮ ‬عيد ميلاد صلاح جاهين  
كلما اقترب عيد ميلاد صلاح جاهين تعتريني‮ ‬حالة من الأنس والبهجة‮ ‬يصير قلبي‮ ‬مفعما بالمودة الحميمة تجاه كل البشر ومع كافة الأشياء،‮ ‬سرعان ما استشعر الدفء الإنساني‮ ‬الذي‮ ‬كان‮ ‬يصبغه علي الحياة المصرية بحضوره القوي‮ ‬الفعال،‮ ‬فما بالك بمن اقتربوا من شخصه عن كثب وطوال عمر كامل؟ لقد شرفت بأن أكون واحداً‮ ‬من اولئك الذين شملهم بعطفه ورعايته،‮ ‬فأتيح لي‮ ‬أن أراه جيداً،‮ ‬فإذا بشخصيته مهرجان من حدائق وحقول قمح وقطن وبرسيم مترامية الأطراف،‮ ‬ومدائن نظيفة واضحة المعالم والشوارع تلعلط بضوء رباني‮ ‬تتفتح علي صفحاته الألوان والزهور،‮ ‬تترادف المآذن والأبراج والقباب،‮ ‬لقد كانت أشعار صلاح جاهين ورسوماته وأغنياته وسيناريوهاته وأوبريتاته وأزجاله وفوازيره المركبة الفذة كل ذلك كانت اشارات ورسالات وبيانات مبعوثة من مدينة فاضلة داخل صلاح جاهين،‮ ‬حتي الرئيس الذي‮ ‬غني له باسم الشعب وساعده علي توسيع أفق الأمل في‮ ‬غد مأمول كان صورة من رئيس مدينته الفاضلة حاولت الأغنيات الثورية تقريبها من الواقع،‮ ‬لعلهما معا،‮ ‬الرئيس والواقع،‮ ‬يرتفعان بالبلاد الي مستوي المدنية‮ - ‬الحلم‮.‬

وكان في‮ ‬جداله الدائم مع الواقع الراهن‮ ‬يدرك‮ - ‬ويشعرنا بأنه‮ ‬يدرك‮ - ‬أن حلمه الثوري‮ ‬علي‮ ‬شفي الاجهاض إن لم‮ ‬يكن قد أجهض بالفعل،‮ ‬فكان في‮ ‬قصائده‮ - ‬التي‮ ‬هي‮ ‬بمثابة بياناته الخاصة‮ - ‬يوجه سهام النقد العنيف للثورة ولزعيمها،‮ ‬علي شفرة موصولة بقرائه وعشاق شعره ورسمه وشخصه،‮ ‬يعرفون علي ضوئها المبثوث في‮ ‬القصائد والأغنيات ان الزعيم الذي‮ ‬يغني‮ ‬له ليس بالضرورة الزعيم جمال عبد الناصر،‮ ‬إنما هو زعيم مأمول لثورة تبناها الشاعر كدعامة لحلم الشعب المصري‮ ‬بمدنية فيها عدالة اجتماعية ويعمها الوئام والأمن والسلام‮.‬ وحين نعود الي قصائد صلاح جاهين التي‮ ‬كتبها ونشرها في‮ ‬عز التسلط‮ "‬الثوري‮" ‬نجدها تكاد تكون بيانات ثورة مضادة مع انها شعر خالص،‮ ‬الا انه شعر ملئ بالأسي،‮ ‬وبالتحريض الصريح علي‮ ‬المقاومة،‮ ‬ناهيك عن أزجاله الصحفية التي‮ ‬فضح فيها الفساد والإهمال،‮ ‬والظواهر الاجتماعية المرفوضة،‮ ‬وفشل المشروع السياسي‮ ‬للثورة‮.‬

ولكن صلاح جاهين الذي‮ ‬أوتي قدرة فذة علي الجمع بين الامتاع والمؤانسة في‮ ‬كل ما‮ ‬يكتب ويرسم ويمثل من أدوار في‮ ‬بعض الأفلام او‮ ‬يشارك مع الكورس في‮ ‬الغناء او‮ ‬يغني‮ ‬بصوته‮ ‬غير الموسيقي‮.. ‬استطاع أن‮ ‬يجمع كذلك بين القديس والفنان في‮ ‬شخصيته التي‮ ‬لا شك في‮ ‬أن الله قد فطرها علي النقاء الإنساني‮ ‬فجاءت نفسا صافية بقلب سليم،‮ ‬من نفس قماشة نفوس الرسل والصديقين،‮ ‬دوره‮ - ‬دورها‮ - ‬في‮ ‬الحياة أن‮ ‬يكون مصباح ضوء وشعلة حماسة من أجل تجديد الحياة وتنقية النفوس،‮ ‬وتوعية العقول عسي أن‮ ‬يرتقي‮ ‬الإنسان الي المرتبة التي‮ ‬تليق بأن‮ ‬يكون بالفعل ابنا لله وممثلاً‮ ‬لإرادته العليا في‮ ‬تعمير الكون،‮ ‬ونفس صلاح جاهين‮ - ‬بصفائها وسلامة قلبها وعلوها علي كل ما هو رخيص في‮ ‬الحياة‮ - ‬قد حباها الله بموهبة فنية شمولية‮ ‬توازي‮ ‬حجم محتواه الإنساني،‮ ‬يكتب الشعر والازجال والاغنيات والاوبريتات والأفلام والمسلسلات والفوازير،‮ ‬ويرسم رسوما تضارع الطبيعة في‮ ‬دقة تفاصيلها وألوانها إذ هي‮ - ‬برغم الكاريكاتيرية‮ - ‬رسوم قصائد،‮ ‬رسوم تشعر وتنفعل وتحتد وتتكلم وهي صافية،‮ ‬ويمثل‮.. ‬
فإذا بكل هذه الامكانيات الذاتية،‮ ‬وإذا بكل هذه الأشكال الفنية المتنوعة،‮ ‬تجئ تمثيلاً‮ ‬لما تمتلئ به نفسه من رسالات وبيانات ودروس وعبر وتحذيرات‮ - ‬وتوجيهات نحو المسالك السالكة الي الخير والحب والسلام والتقدم‮.‬ لم‮ ‬يهدر صلاح جاهين برهة واحدة من عمره في‮ ‬شيء تافه‮ ‬غير مفيد لبني وطنه وللإنسانية كافة،‮ ‬لقد استطاع‮ - ‬بنجاح تاريخي‮ ‬منقطع النظير‮ - ‬أن‮ ‬يشخص القيم النبيلة في‮ ‬أهازيج وأراجيز وطقاطيق‮ ‬غنائية فكأنه خلق للقيم النبيلة سوقاً‮ ‬رائجة بغير تجارة‮.‬

صلاح جاهين فنان ملهم في‮ ‬جده ومزاحه،‮ ‬بل لعله في‮ ‬مزاحه،‮ ‬أي‮ ‬في‮ ‬فكاهاته،‮ ‬أشد منه في‮ ‬جديته،‮ ‬فشكل المزاح‮ ‬يوسع من دائرة الفكاهة،‮ ‬والفكاهة تبيح الجرأة في‮ ‬القفش والانتقاد والسخرية‮ - ‬معلهش النكتة حكمت‮ - ‬فإذا بالصورة الكاريكاتيرية تقول رأيا أو تدلي‮ ‬بوجهة نظر في‮ ‬موضوع أو في‮ ‬ظاهرة أو في‮ ‬مشكلة ما،‮ ‬قد تعجز مقالة من عشر صفحات بأسلوب بليغ‮ ‬عن أحداث التأثير الايجابي‮ ‬الذي‮ ‬تحدثه الصورة الكاريكاتيرية،‮ ‬سيما وصلاح‮ ‬يضفي‮ ‬علي الصورة طابعاً‮ ‬واقعيا صرفا حيث الامهات المصريات‮ ‬يلبسن جلباب البيت ذا النقشة الحميمة،‮ ‬وكذلك المقاعد والأشياء كأنها بصمات للواقع المعاش،‮ ‬إنه لبارع في‮ ‬تحويل الرسماية من خطوط تبرز المفارقة المطلوب تضخيمها وجعلها مثارا للسخرية،‮ ‬الي مشهد تشكيلي‮ ‬كامل بواقعية شعبية صرفة،‮ ‬ظاهرة في‮ ‬شكل الراديو والقلة والطبلية والحصير‮.. ‬الخ،‮
‬فقارئ الصورة‮ ‬يضحك قبل أن‮ ‬يقرأ التعليق،‮ ‬يضحك لأن المفارقة المطلوب التنبيه اليها قد تم تشخيصها في‮ ‬الرسم بوضوح لدرجة أن القارئ‮ ‬يستطيع النطق بالعبارة المطابقة لما في‮ ‬الصورة من انفعال وحركة،‮ ‬ذلك أن صلاح‮ ‬يرسم الحركة فحين تري الصورة‮ ‬يخيل إليك أن هذا الرجل الذي‮ ‬يمشي،‮ ‬يمشي‮ ‬بالفعل،‮ ‬فالحركة مستمرة في‮ ‬عين القارئ رغم سكونها علي الورق،‮ ‬وإذاً‮ ‬فإنه‮ ‬يصفع البيئة الفنية التي‮ ‬تجعل من النكتة العابرة فكرة تبقي في‮ ‬ذهن القارئ لاتني‮ ‬تتطور وتتفتح وتلهم أفكاراً‮ ‬وخواطر ذات شجون‮.‬

المدهش حقاً‮ ‬أن هذا الشاعر الفنان الفيلسوف الذي‮ ‬انطلق في‮ ‬حياتنا كالضوء معبراً‮ ‬عن نفسه عن شعبه عن حلم العدالة بكل هذه الاشكال الفنية المتنوعة،‮ ‬الذي‮ ‬بعث فينا البهجة والأنس والإمتاع عصراً‮ ‬بأكمله‮ ‬يقارب نصف قرن من الزمان‮.. ‬كان‮ ‬يشعر في‮ ‬قرارة قلبه بأنه سجين،‮ ‬يتوق الي الحرية،‮ ‬يراوده السأم فيثقل عليه أحيانا الي حد‮ ‬يصيبه بالحزن العميق،‮ ‬هل هو اغتراب فلسفي؟ ربما هل هو شعور بالصدمة في‮ ‬الثورة الحلم التي‮ ‬انهزمت وأرجعت البلاد الي‮ ‬اختلال أبغض مما تحررت منه؟ وربما هل هو شعور بعدم القدرة علي التواؤم مع عهد سياسي‮ ‬قام علي الزيف والتواطؤ علي المتاجرة بمصير البلاد؟ ربما‮.‬  
 
نقلا عن الوفد

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع