مدحت بشاي
يجلس «عبده دانس» على أول الحارة، يراقب الداخل والخارج: «كده الحارة تنقفل.. كده تنفتح»، ما إن يلمح الراقصة «سكرة» قادمة حتى يهب واقفًا: «انتباه يا دانس».. يعرف «رجب» الرجل الثرى الذى يسعى وراء الراقصة أن الطريق إليها مغلق بالضبة والمفتاح.
والوحيد الذى يستطيع أن يلعب دور الوسيط بينه وبينها هو «عبده دانس»، بلطجى الحارة، يتوسّط «دانس» بالفعل، غير أن «سكرة» تعطيه درسًا قاسيًا فى الأخلاق، فيضحك ساخرًا، وهو يردّد «أحلى من الشرف مفيش يا آه يا آه».. وهو أكثر إفيهات السينما المصرية شهرة، بأداء لا يُنسى للفنان الراحل توفيق الدقن فى فيلم «أحبك يا حسن»، الذى أخرجه حسين فوزى عام 1958.
تذكرت وأنا أتابع مشاهدة أداء «الدقن» الشرير الساخر تفاصيل مشهد عشته منذ أكثر من ربع القرن من الزمان عندما زارنى فى موقع عملى فى بداية حياتى العملية رجل مسن لا أعرفه، وبعد السلام همس لى بخجل وتلعثم وارتباك:
- آسف يا ابنى معلش ممكن آخد من وقتك دقايق لا مؤاخذة؟.
ــ اتفضل الأول يا والدى أقعد أنا تحت أمرك، ولا يهمك.
ــ بخصوص زميلتكم «فلانة»، بصراحة ابن أخويا، شاب زى الورد، ويريد التقدم لخطبتها، ورأيت أن أقوم بتلك الزيارة للسؤال، لا مؤاخذة، عن الشأن العاطفى فى حياتها.
قلت: يعنى إيه الشأن العاطفى؟.
قال: ما تآخذنيش يا ابنى.. حضرتك سيد العارفين الجواز عندنا ارتباط أبدى وعقدة وشنيطة على رأى المثل، فبسأل هل مالهاش سابق علاقات عاطفية فى مجال شغلها؟.
- أنا أعمل معها من مدة كبيرة، ومعرفناش حاجة عن شأنها العاطفى.
وهنا ظهر الارتباك على ملامح وجه ضيفى، وقد تصور أننى أسخر من كلامه وسؤاله، وقال:
ــ معلش يا ابنى احنا عارفين من مظهرها ومن معرفة عيلتها كل خير، ولما سألنا الكاهن عن اعترافها شكر لينا فيها، لكن يا عزيزى انت عارف أن موضوع الشرف أساسى فى الزواج. وشكرنى الرجل بحرارة، ثم انصرف.
هو «الشرف» إذن عندما يلوثه الشأن العاطفى، وعندما يتحول جريمة عاطفية بتصور البعض وإلى علاقة ما فيكون الشرف بتوصيفاته العديدة على المحك ومحل خوف وريبة لتعيش بنات كوكبنا العربى حالة رعب دائمة من الاقتراب من أى حالة شأن عاطفى.. ممنوع الحب!!.
وهل ننسى حدوتة تاجر المواشى فى الفيوم، والذى قتل طفلته، البالغة ثلاث سنوات، خوفًا من فضيحة أن تكبر ويعايرها أهل القرية بسلوك واحدة من قريباتها!.. أطبق بيديه على رقبتها حتى لفظت أنفاسها، وقال فى التحقيق إنه «أراد أن يخلصها من العار»!، ومفهوم طبعًا أنه أراد أن يخلص نفسه من العار المتخيل، وبعبارة أخرى فقد أراد أن يصون شرفه المزعوم!.
وحادثة أخرى تحكى تفاصيلها أن فتاة شابة فى السابعة عشرة خافت من والدها إلى درجة أنها قتلت أختها الصغيرة! دفعتها إلى السرير فى حجرة النوم، وخنقتها بقطعة قماش «بلوزة» لأن الصغيرة هددتها بأنها ستخبر والدها بشأن المكالمة الهاتفية التى سمعتها بين الأخت وأحد الشباب، الخوف من أن ينهض الرجل ويدافع عن شرفه «قد» ساق الفتاة إلى قتل أختها.
إنه الخوف الذى سكن قلب ووجدان ومشاعر المعروفة إعلاميًّا بـ«فتاة أوبر»، ووفق البيان الرسمى عن الواقعة، والذى أصدرته وزارة الداخلية بأن قسم شرطة الشروق تلقى بلاغًا من أحد المستشفيات باستقبال فتاة مصابة بجروح فى الرأس واضطراب فى درجة الوعى، وحسب «الداخلية»، فإن شاهد عيان قال إنه رأى الفتاة تقفز من الباب الخلفى لسيارة وهى مسرعة على طريق السويس، فتوقف لمساعدتها، وأخبرته بأن سائق السيارة التابعة لأحد تطبيقات النقل الذكى حاول معاكستها، فقفزت من السيارة خوفًا من تحرشه بها.
وأكد البيان أنه «جرى تحديد وضبط السائق، وله معلومات جنائية (أى لديه سابقة جنائية)، وبمواجهته قرر أنه حال قيامه بإغلاق نوافذ السيارة ورش معطر فوجئ بقيام الفتاة بالقفز من السيارة، فقام باستكمال سيره، ولم يتوقف خشية تعرضه للإيذاء، وتم اتخاذ الإجراءات القانونية.. الفتاة تُدعى حبيبة الشماع، تبلغ من العمر حاليًا 24 عامًا، خريجة كلية الإعلام من الجامعة البريطانية، وقالت والدة »حبيبة» إن شاهد العيان الذى نقلها إلى المستشفى أخبرنى أن ابنتى قبل أن تغيب عن الوعى قالت: (أوبر كان هيخطفنى).
وفى بيان آخر، تبين من إجراء تحليل للسائق تعاطيه مخدرات.. وهو ما قد يبرر رش السائق للعطر لتغطية رائحة المخدرات، مما أصاب الفتاة بحالة رعب لتصورها أنها بإزاء حالة خطف، وليكن ما يكون دفاعًا عن الحياة والشرف، فكانت القفزة الجهنمية!!.
وقد يبقى السؤال: هل الشرف هو مُجرد فكرة خيالية اخترعها الإنسان، ثم التزم بها وتبعها؟.
غالبًا ما يخترع شكل وماهية الشرف جماعة من الناس تهدف إلى إكساب نفسها أهمية خادعة للوصول إلى سلطة أو مركز اجتماعى.
أرى أن الشرف تركيبة خاصة تجمع فى النهاية مجموعة من القيم وأسس التعامل الإنسانى ووجود إشارات المحبة والتآلف، تندمج بشكل طبيعى لدى كل منّا وفق ترتيبه وتفكيره ومعتقداته الخاصة.
ولابد من الوعى بأن شرف كل شخص مرتبط به وليس بشخص آخر، ومرتبط بشكل مباشر بتركيبته القيمية والأخلاقية، فشخصيته هى التى تحدد معيار الشرف، ومَن علَت همته شرفت نفسه.
ويبقى السؤال: لماذا تتوقف كلمة الشرف لدينا عند العِرض والنسب والوطن فقط؟، فأين شرف المهنة الذى بدأ يتوارى حتى الاضمحلال أمام تعنت المصلحة وعلاقات القوة، وأين شرف الكلمة، وشرف العهد، وشرف الصداقة أو الزمالة، وشرف الكرامة وشرف النزاهة وشرف الانتماء وشرف الأرض.. أليست كلها من معانى الشرف يا آه يا آه؟.
نقلا عن المصرى اليوم