بقلم يوسف سيدهم
أظن أنني أحد الذين زهدوا متابعة الرمضانيات في الإعلام المسموع والمرئي, سواء كانت أعمالا درامية أو منوعات يقال عنها كوميدية أو برامج حوارية لا تخلو من الأمور السطحية التي يتم تمريرها وتبريرها بأنها تسالي!!!.. وكأن شهر الصيام وجب فيه تعطيل العقل وإفساد التذوق وإعطاء الوعي العام إجازة إلا من تعويض فترة الصوم بشراهة الاستهلاك.
لذلك عزفت منذ أعوام طويلة عن الانزلاق وراء سيل الرمضانيات وكنت فقط أتابع ما يتبادله الزملاء والأصدقاء عنها سواء قدحا أو ذما.. لكن ما توقفت أمامه كثيرا متعجبا رافضا محتجا كان نوعية برامج افتعال الحيل للإيقاع بالمواطنين مثل برامج الكاميرا الخفية التي سرعان ما فقدت بساطتها وبراءتها وتحولت من خلق موقف طريف يضحك منه المواطن الذي تعرض له ويضحك معه المشاهد, إلي تدبير مأزق كريه يروح ضحيته المواطن ليضحك عليه المشاهد!!.. والحقيقة إني أعترف بفشلي التام في تقبل مثل تلك المكائد التي تحاك بالمواطنين ولم أجد فيها إبداعا ولا براعة ولا خفة دم بل علي العكس أشفقت علي المواطنين الذين يتم استخدامهم كسلعة لابتزاز ضحك رخيص من المشاهدين علي حساب كرامتهم وآدميتهم, وفي أحيان كثيرة بالمقامرة بسلامتهم!!
كل هذا حدث واستمر يحدث بينما اكتفيت أنا بالانفصال عن متابعته وتحليت بضبط النفس إزاء الكتابة عنه تاركا ذلك للنقاد المتخصصين الذين دأبوا علي تقييم الرمضانيات.. لكن ما دعاني هذا العام للتصدي بالكتابة في هذا الشأن ما حدث العام الماضي..
واعتبرته وقتها سقطة لن تتكرر- لكنه تمادي واستفحل هذا العام بحيث لا يستقيم السكوت عليه.. إنه تحول برامج الاستظراف إلي برامج الرعب واستدراج الشخصيات المعروفة في الحقل الفني أو خلافه لتقدم بدور الضحية -سواء بعلم أو بدون علم- واستثمار ذلك السيناريو القبيح في تسجيل وتصوير مشاهد وفصول المغامرة وإمعان تعريض الضحية لشتي أنواع الإثارة والرعب والإرهاب لا لشئ إلا بتسليط الأضواء علي المشاعر والانفعالات التي تستبد بها والتي لا تخلو من الصراع الهستيري- والبكاء أحيانا- ثم تنحدر إلي الألفاظ الخارجة قبل أن تهوي إلي الحضيض وتصل إلي السباب
الذي يعاتب عليه القانون وقد تتطور إلي الاشتباكات والاعتداءات البدنية!!!
الكارثة في هذه الأعمال التي قد يعتبرها من يقفون وراءها أعمالا فنية أو إبداعية, أنها تمر من الجهات الرقابية- إن كانت تعرض علي تلك الجهات أصلا!!- ويسمح بعرضها, وقد يقول البعض مثلما يقال إزاء جميع الأعمال الخارجة والهابطة: المشاهد ليس مجبرا علي المشاهدة ويمكنه التحول عن البرنامج إلي آخر أو تحويل محطة البث إل محطة أخري.. لكن مع ذلك تظل الكارثة قائمة وعلامات الاستفهام والتعجب ماثلة, فكيف تم إجازة تلك البرامج للعرض وأية معايير سمحت باقتحام محتواها الخطير لحرمة وخصوصية المشاهدين؟!!
إنني أجد في مثل هذه البرامج انتهاكا جسيما لحقوق الإنسان ولحقوق المستهلك أيضا.. فإذا تناولنا حقوق الإسان أقول: كيف يمكن الاستهانة بسلامة وأمان الضحية المستضافة لدي تعريضها للمخاطر والمغامرات التي تفاجأ بها دون استعداد مع تسارع وتيرة تطور المخاطر بدعوي زيادة درجة الإثارة دون الأخذ في الاعتبار ما قد تتعرض له الضحية من خوف أو رعب أو مشاكل صحية أو اضطرابات نفسية؟!!. هذا كله يعد استباحة غير مقبولة لحقوق الضحية وتعريض غير مسئول لسلامتها للخطر- وذلك بافتراض أن الضحية بالفعل لا تعرف ما سوف تتعرض له ويكون في هذا الأمر مصيبة!!
أما إذا كانت الضحية تعرف ما سوف تتعرض له مسبقا
وأن الأمر لا يعدو كونه تمثيلية محبكة يتم تقديمها للمشاهد فتلك مصيبة أعظم لأنها تنطوي علي خدعة غير أخلاقية- ولعل ما يعزز هذا الشك اختيار الضحية من أهل الفن لامتلاكها درجة معقولة للأداء التمثيلي الذي يناسب الموقف ويقنع المشاهد- وهنا تبرز حقوق المستهلك التي يتم اغتصابها عيانا جهارا, فالمشاهد يصبح هو الضحية: ضحية خداعه بإيهامه بأن ما يشاهده هو واقع حي بكل تفاصيله وتطوراته بينما الحقيقة أنه مشهد تمثيلي بارع, ثم هو ضحية اقتحام حرمة منزله وخصوصيته دون استئذان بإرسال سائر التجاوزات الانفعالية واللا أخلاقية التي يفرزها الموقف إليه وعليه أن يقبلها بل ويضحك منها مبتهجا ومنتشيا!!
إننا أمام قضية شائكة مسكوت عنها, أري أنها لا تقل بحال من الأحوال عن انتفاض رئيس الوزراء منذ شهرين وقراره بإعادة فيلم حلاوة روح للرقابة علي المصنفات الفنية لفحصه مرة أخري قبل السماح باستمرار عرضه.. إن برامج الهزل والسباب والمقامرة بالضحايا وخداع المشاهدين واستباحة خصوصياتهم يجب أن تنتفض لها الأجهزة المسئولة عن حقوق الإنسان.. وتلك المهمومة بحقوق المستهلك.