زعقة الوابور

شفيق بطرس

يعتبر أبنائي يوم الأحد هو يوم العائلة والإقتراب من الوالدين عندهم وإقتراب أبنائهم من الجدود يعني أنهم يقتربون من الجذور والمنبع والأصل، وتدور الحكايات والقصص عن الماضي، وأتعمد ان أجهز لهم أو بمعنى أصح لنا كعائلة بعض مقتطفات من الأفلام المصرية القديمة الأبيض والأسود التي تحوي تاريخ وجمال وحلاوة مصر في الستينيات والسبعينيات ولعل هذه الأفلام تساعدنا في إيجاد معاني جديدة وتفتح مجالات لسرد تاريخ  وأحداث عشناها في بلادنا الأم قبل الهجرة لأزرعها في أعماقهم  لكي أضمن  بقاءها وإنها لن تنمحي مع مرور السنين في المهجر.
كان أمس حظنا أن نشاهد بعض مقطتفات من فيلم قديم وكانت اللقطة التي أثرت في الجيل الجديد الذي ترعرع في المهجر هو (سرينة) مصنع لحلج الأقطان في ساعات مبكره تسبق الفجر وكان مصنعاً لحلج القطن أو (مَحلَج) موجوداً وسط قرية هادئة وادعة تقبع في أحضان الحقول، إعترضت إبنتي الكبرى وقالت هل دة حقيقي بيحصل كده؟
فقلت لها بيحصل كدة فعلاً وبدأنا في سرد الإعتراضات على هذا الحدث الذي إعتبروه بناتي حدثاً خطيراً ومشيناً وتدخلاً في حريات الناس وإزعاجاً للمرضى الأطفال الذين هم في أحوج الحاجة لبعض ساعات من النوم وخاصة المصنع هذا يقبع وسط الحقول وتحيطه المنازل وكأنها ملتصقة به، ذكرت لهم قصتي التي لن أنساها فقد كنت في الصف الثاني الإعدادي وبلدتنا في وسط الصعيد كانت مماثلة تماماً لحالة هذه البلدة في الفيلم.
وذكرت لهم أننى أخذت جائزة  تقديرية من الإدارة التعليمية وقتها عندما تقدمت لأستاذ اللغة العربية بقصتي القصيرة وقرأها وأعجبته جداً وكانت القصة هذه هي أولى محاولاتي في الكتابة الأدبية وكانت بإسم (زعجة الوابور) وكان تصميمى عجيباً لأن أكتبها هكذا كما ننطقها في الصعيد وحاول أستاذي أن يصححها ويقول لي إنها تُكتب (زعقة الوابور) لو انت تقصد صرخة الوابور ولكنني صممت على رأيي وأعجبه تصميمي.
كانت قصتي حول الساعات الأولى من الفجر وبلدتنا قابعة في وسط الحقول في سلام وسكينة ينام أفرادها جميعهم مع أول ساعات الليل حيث لا تليفزيون ولا سهر وكانت الساعة الثامنة مساءاً لدينا كمنتصف الليل بالقاهرة، وتستيقظ البلدة الصغيرة كلها مع (زعقة الوابور) أو صرخة سرينة المَحلَج الموجود في الطرف الجنوبي من بلدتنا وكانت هذه السرينة توقظنا جميعاً وكتبت مشاعر كل من جاء إلى خيالي الصغير حينما يسمع (زعجة الوابور) فمنهم من يقوم ليتابع أعماله ويبدأ يومه في الشقاء بالحقل ويراعى مواشيه وأغنامه ومنهم من يراجع دروسه على لمبة الجاز قبل الفجر ليستعد لحمل سلاح العلم ليشق به طريق المستقبل ومنهم من جهز متاعه وملابسه ويحزم حقائبه ويستعد لأخذ قطار الفجر الذي يغادر بلدتنا في الخامسة صباحاً ويستعد لأحضان وقبلات ودموع الوداع، ومنهم من تفرحه (زعقة الوابور) لأنها توقظ من كانوا نياماً ليشاركوه يقظته وقلقه لأنه لم ينام طوال الليل من الآمه وتوجعاته، ومنهم من يقوم ليستعد للصلاة والتقرب إلى الخالق، ومنهم ربة البيت التي تستعد للعجين والخبيز وصنع الطعام للعائلة.
تذكرت قصتي الأولى التي كتبتها وكيف تعامل معي أستاذ اللغة العربية بكل حب وتعاطف وتشجيع وصمم تقديمها للإدارة التعليمية وحصلت بعدها على شهادة تقدير وهي مبلغ في شهادة إستثمار كانت تعطيها المدارس للتلاميذ المتفوقين، ودَعت أحفادي وبناتي وأزواجهن على عتبة منزلنا عند مغادرتهم بعد أن حل وقت رحيلهم لمنازلهم وأغلقت بابي وتنهدت وتذكرت (زعقة الوابور) التي أرجوها أن تنطلق وتصرخ وتوقظ كل النيام في كل ربوع مصر الخامدة واليائسة من كل جديد وكل تجديد وقلت أتمنى أن تستيقظي يا حبيبتي يا أمي يا مصر وتستعدي للتغيير، عندما تسمعين ......... (زعقة الوابور) .......            
 

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع