د. يحيى الوكيل
بقلم: د.يحيى الوكيل
- 1 -
رشف سيف من ثالث كوب للقهوة يقوم بعمله منذ أتى فى الصباح الباكر للعمل بالبنك الذى نقل اليه حديثاً بعد أن استقال من عمله بأحد بنوك القطاع العام و الذى ترقى فيه بسرعة حتى وصلت أخباره و سمعته الى مديرى البنك الأجنبى فسعوا هم اليه لتوظيفه عندهم.
ارتشف سيف رشفات أكثر و هو يحاول أن يغالب آثار قلة النوم. هز رأسه عله يفيق و فكر كم كان يود لو أنه اليوم بكامل نشاطه خاصة و أن اليوم سيقبض أول مرتب له بالدولار من بنكه الجديد، الا أنه سهر الليلة الفائتة فى خلافات مع خطيبته و لم يستطع بعدها النوم حتى جاء فى الصباح الى عمله.
لم يمنع انشغال سيف بترتيب مكتبه و فتح جهاز الكمبيوتر الخاص به أن يتمثل طيف خطيبته، فابتسم. تأكد له أنه يحب تلك الفتاة فعلا، و يتعدى حبه لها مجرد رغبته فيها كأنثى الى ارتياحه الدائم للتواجد معها حتى أثناء خلافاتهما و التى منها الكثير. تذكر خلافهما حول تركه للعمل ببنك القطاع العام و قبوله للعمل بالبنك الأجنبى، و كيف كان رأى خطيبته أنه بذلك يترك و ظيفة مضمونة و مستقبلا واعدا الى حيث يكون "على كف عفريت" – مغفلة حقيقة فارق الدخل الكبير لصالح البنك الأجنبى، و كيف أجابها بأن أبطال قصص ألف ليلة و ليلة قد حققوا ما يرجونه عن طريق العفاريت و ليس عن طريق العمل فلعل البنك الأجنبى هو العفريت الذى سيفتح لهما و لأولادهما حياة رغدة. وقتها أسكت ذكر الأولاد و مستقبلهم خطيبته عن الاعتراض و كسب هو تلك الجولة.
لكن ما حدث بالأمس لم يخرج منه بأى مكسب، بل لقد وصل الأمر الى احتداد كل منهما على الآخر، إذ تمسك هو برأيه فى ضرورة أن تحتجب لأن الحجاب هو فضيلة الاحتشام كما هى قناعته، كما سمع على لسان الشيوخ فى الفضائيات و الذين يحب متابعتهم – و لم لا تقتنع هى و قد تحجبت أختاه و حتى أمها هى محجبة. هز رأسه عجبا أو غيظا و هو يسترجع استمرارها لرفض التحجب، فاصلة بينه و بين الاحتشام و الفضيلة، و هيهات أن تقنعه بما دل صوتها على عدم اقتناعها هى أساسا بما تقوله.
كان يمكن للأمر أن يظل على مستوى الخلاف البسيط، لكنه فوجئ بها تهاجمه و تدعى أنه يخلق المشاكل و يضع شروطا عالما أن التراجع عن الزواج غير ممكن لها و لأسرتها بعد أن بدأوا فى استلام الأثاث و الا تأثرت سمعتها و سمعة أسرتها و مكانتهم الاجتماعية.
باستماتة حاول سيف أن يؤكد لها خطأ ما ذهب اليه تفكيرها، و لكنه فشل وسط دموعها و نهنهاتها فآثر الانسحاب لكى لا تتفاقم الأمور و يقول أى منهما أو يفعل ما لا يمكن اصلاحه و يورث الندم حيث لا ينفع الندم.
عاد سيف الى منزله عازما أن يعود إليها اليوم بعد انتهاء عمله، حاملا معه هدية يشتريها لها من أول مرتب يقبضه من العمل الجديد ليسترضيها و يأتلف أيضا قلبها لترضى بالحجاب.
انتبه من أفكاره على صوت باب البنك يفتح للعملاء، فألقى نظرة سريعة على سطح مكتبه ليجد كل شيئ فى مكانه بالنظام الدقيق المعروف عنه، فشرب ما بقى فى فنجان قهوته و اعتدل فى جلسته فى انتظار استقبال عملاءه.
- 2 -
لم يمض الكثير من الوقت، و بينما سيف مشغول مع ثانى عملائه لهذا اليوم لفت انتباهه صوت الانذار الصادر من جهاز الكشف المثبت على باب البنك. أشاح بعينيه ناحية الباب فرأى سيدة منقبة تميل إلى الطول و سمعها تشرح بصوت رخيم خفيض و إن لم يخل من خشونة لفرد الأمن أنها تستعمل جهازا للمشى لسابق اصابتها بساقها و أنها ستريه بداية الجهاز عند الحذاء و لكنها لن تقبل بتفتيشها أبدا من رجل.
كان للهجة الخليجية التى استعملتها تلك المرأة و قعا يوحى بأنها عميل هام أو ستكون كذلك مما ساهم فى قبول مدير الفرع – و كان قد استدعى ليرى رأيه فى المشكلة – لدخول السيدة بلا تفتيش و أعطاها بنفسه رقمها فى الدور موجها اياها لخدمة العملاء‘ و لولا نظرات العملاء الآخرين المنتظرين فى الدور لدعاها لمكتبه و خدمها بنفسه.
جلست السيدة فى انتظار دورها، و مضى سيف فى عمله لكنه لم يستطع أن يمنع نفسه من ان يسترق النظر ناحيتها و يرمقها بنظرات طوال متمنيا لو كانت خطيبته متنقبة مثلها فتحمى جمالها من عيون الناس و تفتح لها الأبواب كرامة لفضيلتها و عفافها، فهذا قد بشر به الشيوخ على الفضائيات و شهده بنفسه اليوم. كشفت نظرات سيف له أن المرأة المتنقبة تبدو و كأن لها بطنا ممتدة، و قد أحاره هذا لأن يديها و إن كانتا كبيرتين قليلا بما لا يخفيه القفاز الذى ترتديه إلا أن أصابعها تبدو أنحف من أن تكون لامرأة بدينة.
سيطر عليه فجأة شعور بعدم الارتياح و تمنى لو أن دور هذه المرأة فى الخدمة كان من نصيب احدى زميلاته فى العمل، و لم يعرف لماذا خالجه ذلك الشعور؛ أيعزوه لما شهد من تركيب المرأة البدنى الغريب أم الى شيئ آخر لم يدر بعد بكنهه؟ ارتضى لنفسه أن يفسر شعوره بعدم الارتياح بالحرج الذى يستشعره من اول تعامل له مع منقبة، فلا سبيل لمعرفة بنيان امرأة تحت النقاب و لابد أن ما شاهده كان وهما بصريا. و بينما كان يهنئ نفسه على ما وصل اليه و ارتاحت له خوالجه إذ خطر له أنه لن يستطيع أن يرى وجهها ليتحقق من شخصيتها و هو اجراء ضرورى فى معظم المعاملات البنكية.
لم يتح لسيف الوقت الكافى لتعاوده الشكوك و المخاوف و ذلك الشعور بعدم الارتياح، إذ أعلن جرس و رقم تُلى فى المذياع الداخلى عن دور المرأة فى الحصول على الخدمة.
و كانت خدمتها من نصيب سيف.
قام سيف احتراما لعميلته الى أن جلست و استقرت فى كرسيها، ثم سألها كيف يمكن له أن يخدمها. بصوت خفيض بدرجة أكبر مما كان عليه عند مدخل البنك لدرجة أن وجد سيف نفسه يجد صعوبة فى سماعها زادتها اختلاط لهجهتها بين المصرية و الخليجية. طلبت اليه فتح حساب دولارى لتصرف منه خلال اقامتها فى مصر، و كانها أحست بحيرته صرحت له أنها مصرية عاشت فى الخليج لسنين عديدة و تزوجت هناك. و كأنه غريق وجد شاطئا قريبا كانت كلماتها كافية لتفسر له كل ما غمض عليه من شأنها، و تركت لعقله الحرية للتركيز على عمله – فلابد أن المبلغ الذى ستودعه كبير و هذا يعنى عمولة ضخمة له - فطفق يشرح لها أنواع الحسابات البنكية لتختار منها ما تريد. لاحظ أنها لا تتكلم و تكتفى بكتابة ملاحظات أقرب الى الشفرة - حسبما تسنت له القراءة – بأصابعها الكبيرة تلك.
هذه المرة لم يسمح لشعوره بعدم الارتياح بأن يطفو لسطح عقله مجددا و أرجع صمتها لما عرفه من شيوخ الفضائيات أن صوت المرأة عورة لا يستعمل الا فى أضيق الحدود، فأكبر فيها هذا و استمر فى الشرح حتى أنهاه.
بنفس الصوت الخفيض و الكلمات القليلة طلبت ايداع مئات الآلاف من الدولارات فى الوعاء الادخارى الذى اختارته، فلم يستطع أن يخفى تهلل وجهه و بدأ فورا فى اعداد الاستمارات بينما انشغلت هى فى مكالمة هاتفية على جوالها فهم منها أنها تطلب من أحد أن يرسل اليها بالمبلغ فى مقر البنك و أن ذلك لن يستغرق سوى دقائق.
عاوده الشعور بعدم الارتياح الذى لم يستطع دفعه عنه هذه المرة، و لم يدر ان كان منبعه عدم وجود المبلغ مع عميلته أم ما جال بخاطره عن كيفية التصرف للتحقق من شخصيتها.
استمر سيف فى تحرير الاستمارات اللازمة حتى وصل الى نموذج التوقيع و الذى لابد لاتمامه من التحقق من شخصية العميل، و هنا تدخلت هى بطوق النجاة له و أعلمته انها تستطيع كشف النقاب لولاة الأمور و فى هذه الحالة مدير الفرع الذى يستطيع التحقق من شخصيتها و استكمال الاجراءات لحين وصول النقود و التى طبعا ما كانت تقدر على الخروج بها وحدها أبدا.
و كأنها داست على كل أزرار الأمان فى عقل سيف، و أعطته كل الاجابات عن ما يشغله منذ أن دخلت البنك؛ فالتقط سماعة التليفون و طلب مدير الفرع شارحا له الموقف فى كلمات قليلة كانت كافية ليرحب المدير بهما و يخلى لهما المكتب فى انتظارهما.
- 3 -
لملم سيف أوراقه و تبع المرأة إلى مكتب مدير الفرع ثم دخلا معا و جلست المرأة بينما ظل هو واقفا بعد أن وضع الاستمارات على مكتب المدير. عندئذ طلبت المرأة منهما اسدال ستائر النوافذ الزجاجية للمكتب و المطلة على البهو الداخلى للبنك، ثم يخرج المدير من خلف المكتب ليواجهها فى جلستها لكى يتكشف له وحده وجهها.
ما أن جلس مدير الفرع قبالتها حتى مدت يدها تحت الخمار فيما بدا أنها سترفع النقاب لتريه وجهها، و لكنها و بسرعة البرق أخرجت مسدسا و بصوت رجالى و لهجة مصرية خالصة طلبت من كليهما الصمت التام و أن يرفعا أيديهما استسلاما إلى أعلى ما يستطيعان.
فى حركات سريعة تخلصت المرأة – الرجل الآن بعد أن تكشفت حقيقته – من النقاب و الخمار و العباءة لتظهر حقيبة ظهر كبيرة يرتديها بالعكس كانت السبب فى أن يظن سيف بطن المرأة ممدودة كبيرة، و من فوق الحقيبة رأيا مشد صدر يحوى مادة رمادية ذات قوام مترجرج و قد شكلت لتماثل نهدى امرأة. تخلص من الحقيبة ووضعها على المكتب بجانبه، أما المشد فخلعه أيضا الرجل بيد واحدة من فوق رأسه و تركه على الأرض ثم انتصب واقفا أمامهما مهددا بالسلاح الذى فى يده.
فتح الحقيبة و أخرج منها مجموعة من الشرائط البلاستيكية كالتى تستعمل فى تقييد حركة المجرمين و شاهد سيف فى نشرات الأخبار جنود الاحتلال الاسرائيلى يستعملون مثلها لتقييد حركة المتظاهرين الفلسطينيين، فاقشعر جلد سيف لما ربط بين ما شاهده من الألم و ما يمكن أن يحدث له. نظر سيف الى المرأة-الرجل-اللص فلم يعرف كيف يتعامل مع الكيان الواقف أمامه، ووجد نفسه يفكر فيه على أنه مجرد "نقاب" – بدون تذكير أو تأنيث.
سمع سيف النقاب يأمره و مديره بتحريك كرسى المدير من خلف المكتب الى منتصف الغرفة طالبا منهما بوضوح ابقاء أيديهما على مساند الكرسى بوضوح و أن لا يفكر أيهما فى الضغط على زر انذار أو ما شابه و الا سيكون الموت جزاءهما معا. امتثلا للأمر و دفعا الكرسى الى منتصف الغرفة، و لما فعلا طلب منهما دفعه ليلتصق بخزانة الملفات، ثم دفع إليهما ببكرة شريط لاصق قوى عريض و طلب منهما أن يكمم كل منهما الآخر بجزء منه. لما فعلا طلب من سيف أن يجلس الى كرسى المدير و بعدها طلب من المدير أن يربط يدى سيف الى مساند الكرسى، موضحا ضروة السرعة و الا اصابته رصاصة فى عموده الفقرى تتسبب له فى شلل كامل مدى الحياة. نفذ المدير ما طلب منه مكملا اياه بدفع يديه خلف ظهره ليربطهما النقاب بشريط بلاستيكى فى حركة واحدة ثم يطلب منه الاستلقاء على الأرض على بطنه.
استدار النقاب بعدها الى سيف و بحركات سريعة قيد رجلى سيف للكرسى رافعا اياهما عن الأرض حتى لا يمكنه دفع الكرسى بعيدا ناحية الباب لطلب النجدة، ثم أزاد قيود يديه بالشرائط البلاستيكية و أتم ما كان يفعل بربط الكرسى بخزانة الملفات. اتجه النقاب بعدها ناحية المكتب و التقط المشد من على سطحه، و لهلع سيف و اشمئزازه ربطه الى صدر سيف ثم مد يده الى الحقيبة ليخرج منها ما بدا أنه جهاز كهربائى متصل بجوال و قضيب معدنى قام بغرسه فى المادة الجيلاتينية و هو يشرح لسيف و مديره أن ما يقوم بتوصيله هو مفجر موصول بالجوال و تكفى مكالمة منه على رقم الجوال لتفجير المكان كله لأن المشد محشو بمتفجرات بلاستيكية من النوع القوى جدا المستخدم فى المحاجر.
فتح النقاب الجوال و تأكد من التقاطه للشبكة و أراها لسيف الذى اتسعت عيناه ذعرا، ثم أعاد ارتداءالعباءة و حقيبة الظهر و فوقهما الخمار و النقاب حتى لم يعد ظاهرا منه الا عيناه كما كانتا عندما قدم الى البنك فى الصباح إلا أنهما بدتا لسيف هذه المرة كجمرتى نار من الجحيم. فك النقاب وثاق المدير و ساعده على الوقوف و هو يضغط بطرف سلاحه على جسد المدير حتى رأى سيف وجهه ينقبض من الألم و لكنه لم يحر صوتا حتى بعد أن أزال النقاب الشريط اللاصق من على فمه.
دس النقاب يده التى تحمل المسدس تحت الخمار و أخرج فى يده الأخرى جوالا آخر كان واضحا الغرض منه: الاتصال بالجوال المفجر، فكان لسيف و مديره السلاح الأقوى بحوزة النقاب. بصوت خفيض و لكن بلهجة آمرة وجه النقاب كلامه للمدير طالبا الحصول على مفاتيح الخزانة و التوجه اليها. فى صمت مد المدير يده و فتح درجا صغيرا أخرج منه المفاتيح – بينما تتابع عينا النقاب كل حركاته و كأنهما معلقتان فى فراغ شديد السواد.
خرج المدير من المكتب يتبعه النقاب بشكل لا يثير الريبة فهو متكرر فى الشوارع كل يوم: رجل تتبعه امرأة منقبة فى يدها جَوال، و أغلقا الباب وراءهما. سمع سيف المفاتيح تعمل فى قفل الباب لتوصده لتعلن له أنه قد صار وحيدا الى حين.
بقوة لم يعهدها فى نفسه أزاحهم عنه و خرج من الباب – و لا أحد يفكر فى ايقافه
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=9893&I=260