المواطنة والواقع المعاش

بقلم : د‏.‏ نبيل صموئيل أبادير

تصطدم المواطنة في واقعنا المعاش بمجموعة مركبة من الإشكاليات والتحديات والعقبات‏,‏ تؤثر في مجملها علي مفهوم وتطبيقات المواطنة في حياتنا كمواطنين وكمجتمع وكدولة‏.‏ فهناك فجوة هائلة في امتلاك الثروة في مجتمعنا ما فئة قليلة جدا‏,‏ وما بين الغالبية العظمي التي تسبح تحت نير الفقر والحرمان‏,‏ مع تزايد أعداد المهمشين والمستبعدين والذين بلا مأوي وأصحاب الاحتياجات الخاصة وغيرهم من الفئات المحرومة‏,‏ كما تصطدم المواطنة أيضا بتفشي ظاهرة المغالاة في مظاهر الدين دون التمسك بقيمه الجوهرية‏,‏ فتنتشر أمراض الفهلوة والرشوة والمحسوبية واللامبالاة وغيرها من مظاهر الفساد والإفساد‏,‏ وفي هذا الإطار تتعاظم ظاهرة رفض الآخر المختلف‏,‏ سواء أكان أختلافا دينيا أو عقائديا‏,‏ أو سياسيا‏,‏ أو اجتماعيا ـ رفضا يصل إلي حد عدم قبول كل اجتهاد أو إعمال للعقل والتفكير ومحاولة فرض الرأي والفكر بالقوة‏,‏ التي قد تصل إلي حد التكفير وقتل المختلف جسديا أو معنويا‏.‏

وقد نشأ عن ذلك حالة من المواجهة الحادة بين غالبية تتمسك تمسكا شديدا بالتقاليد والمورثات والمنقول ـ دون نقده أو تحليله ـ وبين أقلية تحاول التحرر من المورثات في ضوء معطيات العصر ومتطلباته‏,‏ وبذلك ينقسم المجتمع انقساما حادا ما بين انتماءات تقليدية‏,‏ أو عرقية‏,‏ أو دينية‏,‏ تنفي وترفض أي محاولة لنقد هذا التقليد‏,‏ وتعتبر من يقوم بذلك خارجا عن إطار المجتمع والدين‏,‏ وبين انتماءات أخري تحاول تفكيك الواقع بحرية كاملة دون قيود فكرية أو دينية أو أجتماعية‏,‏ وتعتبر كل من يرفض ذلك في حالة من التخلف والرجعية‏.‏

أسهم في الوصول إلي هذه الحالة الثقافية غياب دور الثقافة والمثقفين لعقود طويلة تركت الساحة مفتوحة لاصحاب الفكر التقليدي النقلي المغالي‏,‏ والرافضين تماما لأي اجتهاد أو إعمال للعقل في تحليل ونقد التقليد‏.‏ إضافة إلي المناهج التربوية والتعليمية والتي ظلت لفترة طويلة تقوم علي العزل أو النفي والاستبعاد للآخرين‏,‏ وعلي اختزال التاريخ وتسطيح الذاكرة الجمعية‏,‏ مناهج تعزل الأطفال الذكور عن الاناث‏,‏ وأصحاب الأديان المختلفة عن بعضهم بعضا والفقراء عن الاغنياء‏,‏ فتحولت المؤسسة التعليمية‏(‏ المدرسة التي ينصهر فيها كل أبناء المجتمع الواحد مكونين الصداقات والمعرفة الجمعية عن بعضهم البعض‏),‏ إلي مكان يكرس للتمييز ورفض الاختلاف بسبب الدين والعقيدة والجنس‏(‏ النوع الاجتماعي‏)‏ وأيضا المستوي الاجتماعي‏,‏ فأصبحت معملا للجهل والتطرف والمغالاة‏,‏ مما يعوق حركة المواطنة في المجتمع‏.‏

أسهمت أيضا وسائل الإعلام ولفترة طويلة مقروءة ومسموعة ومرئية والكترونية في تقديم صورة نمطية معكوسة وغير حقيقية في أغلبها عن الآخر‏,‏ وعن الاختلاف‏,‏ وقامت بتهميش واستبعاد المختلفين عن الثقافة السائدة في المجتمع مما أدي إلي رفض جماعي للمختلفين أو المتحررين إلي حد كبير‏.‏ وإن كان قد ظهر في الأونة الاخيرة وعي مؤسسي ومجتمعي بهذه الاشكاليات والتحديات والتي أصبحت أحجارا صماء في مواجهة المواطنة‏,‏ وأن جهودا حكومية وأهلية تبذل لمواجهة هذا الواقع المرير إلا أنه نظرا لاستمرار هذا الواقع وهذه الحالة لفترة من الزمن فإن هذه الجهود لن تأتي بثمارها المرجوة في القريب العاجل‏,‏ وأن الأمر يحتاج إلي مثابرة وتجميع للجهود لفترة طويلة حتي نستطيع معا تغيير هذا الواقع علي أرضية المواطنة القاعدة الاساسية للدولة المدنية دولة جميع المواطنين حكاماي ومحكومين‏,‏ وكل أصحاب الديانات المختلفة‏,‏ للفقراء والأغنياء‏,‏ وللنساء والرجال‏,‏ والأطفال والشباب‏,‏ للمعاقين وكبار السن‏,‏ للمواطنين ككل بلا استثناء‏.‏

إن التأسيس للمواطنة ـ قاعدة الدولة المدنية ـ لايتأتي بقانون أو بقرار أو بجهود الحكام فقط ولا يتأتي بالصدفة ولا بتقادم الزمن‏,‏ بل يتأتي بالأحري بقناعة وإرادة وجهود المواطنين المحكومين‏.‏

نقلا عن جريدة الأهرام

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع