صحافة إنفلونزا الخنازير‮!‬

بقلم: نبيل عمر

إذا قلبنا في‮ ‬الصحف المصرية كلها سيدهشنا ويحيرنا ذلك التفاوت الرهيب بين ما‮ ‬ينشر في‮ ‬الصحف العامة والصحف الخاصة،‮ ‬كما لو أن مصر عالمان مختلفان،‮ ‬وأحيانا متناقضان‮.. ‬كل منهما‮ ‬يتحرك في‮ ‬مدار،‮ ‬له أهله ومشكلاته وحكومته ودنياه وجرائمه وعلاقاته‮!‬
مصر في‮ ‬الصحف العامة انجازات تخرق عين الشمس‮..‬لا‮ ‬يسئ إليها بعض الفساد الذي‮ ‬لا تخلو منه دولة في‮ ‬العالم،‮ ‬ولا‮ ‬يقلل من قيمتها بعض‮ "‬الأزمات‮" ‬القادمة من العالم الخارجي‮ ‬علي أجنحة العولمة كالانهيار المالي‮ ‬والكساد،‮ ‬والأسعار العالمية الملتهبة‮!‬
مصر في‮ ‬الصحف الخاصة والحزبية حالها‮ ‬يصعب علي الكافر وحكومتها تضع‮ ‬يدها في‮ ‬الماء البارد ولا تحس بمعاناة الناس‮!‬
نعم لدينا مصران‮..‬ مصر المشرقة مع بعض الأحزان الموجعة‮.. ‬ومصر المتشحة بالسواد مع بعض البقع البيضاء‮.. ‬فأيهما الأصدق والأصح؟‮!‬
ما هذه الفوضي المربكة؟‮!‬ بالرغم من أهمية هذا السؤال‮..‬إلا أنه ليس مربط الفرس‮..‬ فالأكثر أهمية منه‮: ‬كيف‮ ‬يمكن أن‮ ‬يختلف واقع المصريين في‮ ‬صحيفة عامة عن صحيفة خاصة؟‮!‬
صحيح أن الحقيقة لها أكثر من وجه لكونها فكرة فلسفية تتلون بنفسية صاحبها وثقافته‮.. ‬لكن الواقع أحداث مجردة‮..‬
فلماذا‮ ‬يتلون الواقع؟‮!‬ لأن الصحافة لا تحاول أن تري‮ ‬الواقع كما هو،‮ ‬وإنما تنتقي منه ما‮ ‬يثبت وجهة نظرها فقط،‮ ‬وتتجاهل أي‮ ‬وقائع أخري‮ ‬أو تحاصرها في‮ ‬النشر‮.. ‬هذا هو المأزق الذي‮ ‬يكاد‮ ‬يطيح بها من سوق المنافسة الإقليمية تماما،‮ ‬كما لو أنها مصاب بإنفلونزا الخنازير التي‮ ‬يفر منه الأصحاء‮!
وهذا عيب مهني‮ ‬فادح‮ ‬يزرع قدرا من الشك وعدم الثقة بين الصحافة وجمهورها‮.. ‬ويحد من تأثيرها علي الرأي‮ ‬العام وقيادته‮.. ‬ولهذا نجد اتهامات دائمة للصحافة العامة بأنها لا تجيد التعبير عن النظام السياسي‮ ‬والحكومة،‮ ‬واتهامات للصحافة الخاصة بأنها تسود عيشة الناس وتلعب علي أوتار مشاعرهم وتبتزها‮..‬
صحافة ترقص علي السلم،‮ ‬لا السادة راضون عنها ولا الناس‮ ‬يصفقون لها‮..‬وأكبر دليل علي ذلك هو تراجع توزيع الصحف والمجلات،‮ ‬دون إنكار لتأثيرات الإنترنت والفضائيات عليها‮!‬
وكنت قبل أيام مع دبلوماسي‮ ‬غربي‮ ‬ومر قطار الحوار بيننا علي محطات كثيرة‮: ‬سياسة واقتصاد وعلاقات دولية،‮ ‬ثم انتهي‮ ‬إلي الصحافة‮..
‬فقال لي‮: ‬الجرائد العربية خاصة التي‮ ‬تصدر من لندن أصبحت ذات ثقل كبير في‮ ‬العواصم الغربية،‮ ‬يفوق أي‮ ‬جريدة مصرية‮..‬
قلت له‮: ‬لكن أحيانا تنقل وكالات الأنباء الغربية مقالات رؤساء تحريرالصحف المصرية‮!‬
فقال‮: ‬شيء عادي‮.. ‬فمثل هذه المقالات تكشف لنا اتجاهات السلطة في‮ ‬مصر،‮ ‬لكن في‮ ‬القصص الإخبارية نحن نهتم أكثر بـ"الشرق الأوسط‮" ‬و"الحياة‮"!‬
قلت‮: ‬هذه جرائد إقليمية‮.. ‬بينما الصحف المصرية محلية في‮ ‬الغالب‮!‬
قال‮: ‬هذا عيب لا‮ ‬يتفق وحجم مصر‮.. ‬ثانيا‮.. ‬توجد جرائد عربية محلية أفضل مهنيا كالنهار البيروتية‮!‬
شعرت بحزن بالغ‮ ‬وصل إلي حد تقلصات شديدة في‮ ‬معدتي،‮ ‬فمصر عرفت الصحافة قبل أي‮ ‬دولة عربية بأكثر من قرن،‮ ‬وأول جرائدها صدرت في‮ ‬عشرينيات القرن التاسع عشر،‮ ‬وعندها أقدم جريدة‮ ‬يومية في‮ ‬المنطقة‮..
‬فماذا حدث؟‮!‬ الصحافة المصرية منذ خروجها إلي شمس الحياة وهي‮ ‬تحمل في‮ ‬بنيتها‮ "‬تشوهات‮" ‬التنشئة،‮ ‬ولم تستطع عبر أجيالها المتعاقبة أن تعثر علي علاج له،‮ ‬وهي‮ ‬تشوهات سهلت لرجال ثورة‮ ‬يوليو حين قامت،‮ ‬أن‮ ‬يؤمموها ويقصوا أجنحتها،‮ ‬فتحولت إلي جارية في‮ ‬البلاط،‮ ‬بعد أن كانت صاحبة جلالة تنحرف أحيانا‮!‬
وبالطبع كلما تدخلت الحكومة في‮ ‬نشاط إنساني‮ ‬أفسدته،‮ ‬وجابت‮ "‬عاليه واطيه‮"‬،‮ ‬ولم تخرج الصحافة المصرية عن القاعدة التي‮ ‬حكمت القطاع العام،‮ ‬حتي لو قيل إنها تتمتع‮ "‬بوضع‮" ‬خاص،‮ ‬فمجلس الشوري هو المالك الظاهر للأعين،‮ ‬لكن مركز السلطة في‮ ‬الدولة هو المالك الحقيقي‮ ‬الذي‮ ‬يمسك كل الخيوط من خلف الكواليس،‮ ‬فالصحافة للنظم‮ ‬غير الديمقراطية أو ذات الهامش الديمقراطي‮ ‬هي‮ ‬واحدة من أهم وسائل السيطرة والحكم والتحكم،‮ ‬بها تعيد تشكيل أفكار الناس علي النحو الذي‮ ‬تريده،‮ ‬وتدفع بهم إلي اهتمامات أو انشغالات تري فيها مصالحها،‮ ‬وتستغلها جسرا للطاعة والصبر والقناعة كنز لا‮ ‬يفني‮ ‬ونشر التصريحات عن الأحوال الوردية‮!‬
وإذا كان الرقيب الحكومي‮ ‬قد لعب دورا في‮ ‬تأديب وتهذيب وإصلاح الصحف حتي منتصف السبعينيات من القرن الماضي،‮ ‬إلا أن هيئة تحرير الصحف بعد إلغاء الرقابة صارت أكثر براعة وحنكة في‮ ‬أداء هذا الدور الخطير‮!‬
وتدريجيا حدث تراجع هائل في‮ ‬الصحافة المصرية‮ : ‬فكريا ومهنيا‮.. ‬تراجع‮ ‬يمكن رصده بسهولة،‮ ‬وإنكاره هو نوع من‮ "‬العناد الغبي‮" ‬الذي‮ ‬يبقي الأوضاع المائلة علي ما هي‮ ‬عليه،‮ ‬يكفي‮ ‬أن أقول إنه ولا صحيفة عامة في‮ ‬مصر تصدر إلكترونيا من الألف للياء،‮ ‬ومازال أغلب المحررين‮ ‬يكتبون بالقلم والورقة حتي هذه اللحظة،‮ ‬مع أن هذا النوع من التحرير قد اندثر ولم‮ ‬يعد له وجود،‮ ‬ليس في‮ ‬العالم المتقدم فقط،‮ ‬ولكن في‮ ‬عدد كبير من الدول العربية‮.. ‬
والمسألة ليست في‮ ‬التقنية فقط،‮ ‬بالرغم من أهميتها،‮ ‬ولكن في‮ "‬جوهر‮" ‬الأداء الصحفي‮ ‬نفسه،‮ ‬لأن معايير الكفاءة والنجاح توارت وحل محلها قانون الشلة وأهل الثقة وأبواق الدعاية،‮ ‬لم تعد الموهبة لها قيمة أو ثمن إلا في‮ ‬النادر،‮ ‬وارتفعت قيمة الدسائس والمؤامرات وتكبير‮ "‬الودان‮" ‬ونقل الكلام الخبيث وتشويه السمعة من تحت لتحت‮!‬
هرست تقاليد مهنية عظيمة تحت الأقدام‮..‬وشاع قانون الصراع والبقاء للأكثر خبثا وقربا وتنفيذا للأوامر‮! ‬وهو ما رصده العبقري‮ ‬فتحي‮ ‬غانم في‮ ‬روايته البديعة‮ "‬زينب والعرش‮"..‬ في‮ ‬هذه الأجواء تشنق معايير الأداء المهني‮ ‬علي أعمدة النفاق والطاعة والولاء،‮ ‬وتدخل أجيال جديدة تتعلم قواعد اللعبة،‮ ‬لا‮ ‬يهم الاجتهاد والابتكار والمثابرة‮..
‬ولكن الأهم هو نسج الخيوط القوية مع رجال السلطة والقادرين علي الدفع بمن‮"‬يخدمهم‮" ‬إلي الصفوف الأولي‮..‬ وحين ظهرت الصحافة الخاصة وتوسعت وتمتعت الصحافة عموما في‮ ‬السنوات الأخيرة بقدر كبير من الحرية،‮ ‬لم تتمكن من استغلالها في‮ "‬الارتقاء‮" ‬بأدائها ودورها إلا قليلا وبطريقة‮ ‬غير مكتملة‮..‬
والمدهش أن البعض منها عاد إلي لغة الردح والسب التي‮ ‬كانت عليها في‮ ‬فترة ما قبل ثورة‮ ‬يوليو‮..‬

نقلا عن جريدة الوفد

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع