لطيف شاكر
بقلم: لطيف شاكر
اللغة القبطية هي المرحلة الأخيرة من مراحل تطور اللغة المصرية التي تكلم بها وكتبها قدماء المصريين منذ أكثر من خمسة آلاف سنة، والرأي السائد لدى العلماء أنها تنحدر من اللغة (Late Egyptian) المصرية المتأخره مباشرة، حسبما كانوا يتحدثونها في القرن السادس عشر قبل الميلاد مع بداية الدولة الحديثة. ولكن العلامة شيّن M. Chaine يسجل رأيًا جديدًا في مقال له عن اللغة الوطنية الشعبية لمصر القديمة) نُشر في المجلد الثالث عشر لمجلة جمعية الآثار القبطية بالقاهرة، صفحات 179– 190)، ويؤكد فيه على أن اللغة المصرية واللغة القبطية كانتا متعاصرتين وموجودتين معًا منذ أقدم العصور، و يقدم دراسة مستفيضة لقواعد اللغتين يستخلص منها، أن اللغة المصرية لم تكن لغة تخاطب، وإنما هى مأخوذة عن القبطية – بإعتبار القبطية هى الأصل – وقد صيغت بحيث يقتصر إستخدامها من جانب الكهنة والكتبة في الكتابة فقط؛ أي أن اللغة المصرية لغة صاغها بعض المصريين الناطقين بالقبطية لهدف الكتابة بها فقط، وظلت معرفتها محصورة في دائرة الكتبة وحدهم دون عامة الشعب.
خطوط الكتابة المصرية
المعروف أن الكتابة المصرية القديمة كتابة تصويرية بدأت بالخط الهيروغليفي (أي النقش المقدس) مع عصر الأسرة الأولى ( 3110 – 2884 ق.م )، أو قبلها ببضع مئات من السنين
وقد أستخدم الخط الهيروغليفي للنقش على حوائط المعابد والمقابر والنصب الحجرية، وللكتابة به على أوراق البردي، وبتبسيطه أشتق منه الخط الهيراطيقي (أي الكهنوتي)، وقد إستخدمه الكهنة للكتابة به على أوراق البردي.
ثم ظهر الخط الديموطيقى (أي الشعبي) في زمن الأسرة الخامسة والعشرين، وهى الأسرة الكوشية أي الإثيوبية ( 736 – 657 ق.م )، وهو كتابة سريعة مختصرة من الخط الهيراطيقي، وأصبح خلال عصور البطالمة والرومان هو الخط المعتاد لإستخدامات الحياة اليومية.
و آخر ما لدينا من النصوص الهيروغليفية وُجد في جزيرة فيلة بأسوان، ويرجع إلى سنة 394 م. بينما أن أخر ما لدينا من النصوص الديموطيقية يرجع إلى سنة 452 أو 470 م، وبدخول اليونانيين البطالمة إلى مصر ظهرت الكتابة القبطية بإستخدام الأبجدية اليونانية، مع إضافة سبعة أحرف من الديموطيقية لتمثيل الأصوات القبطية التي لا يوجد ما يمثلها في الحروف اليونانية.
وفي البداية كانت الرموز الديموطيقية المستعارة في الكتابة القبطية أكثر من الحروف السبعة التي إستقرت فيما بعد في آخر الأبجدية القبطية وهى : شاي، فاي، خاي، هورى، جنجا، شيما، دى.
أما اللغة القبطية الحالية فهي تعتبر اللهجة العامية للغة المصرية القديمة، وقد كتبت هذه اللغة بعدة خطوط مصرية ومرت بمراحل مختلفة كان الخط القبطي هو آخر مرحلة مر بها.
الخطوط المصرية
- الخط الهيروغليفي : كان مقدسًا عند المصريين وكانوا يستعملونه أمام معبوداتهم. 1
الخط الهيراطيقي: وهو أسهل من سابقه وقد إستعمله الكهنة في كتاباتهم 2-
3- الخط الديموطيقي: وهو الذي إستخدمه الشعب المصري في العصور المتأخرة، ويعنى باليونانية الخاص بالشعب، وظهر في الأسرة ال 25 من سنة 715 إلى 666 قبل الميلاد.
4- الخط القبطي: في القرن الثاني الميلادي قام القديس بنتينوسمدير (مدرسة الأسكندرية اللاهوتية) بترجمة قبطية للكتاب المقدس.
ويجدر بنا أن نلاحظ أن الكتابة القبطية هي الوحيدة بين صور الكتابة المصرية التي تسجل الحروف المتحركة، فتعطينا فكرة دقيقة عن طبيعة نطق الكلمات المصرية، وبالتالي فإنها تُظهر أيضًا إختلاف نطق اللغة من منطقة إلى أخرى، فتتضح في الكتابة القبطية فوارق اللهجات.
و لهذا نستطيع من قراءة الوثائق القبطية أن نحدد اللهجة المكتوبة بها، هل هى بحيرية أو صعيدية أو فيومية أو بهنساوية أو أسيوطية أو أخميمية، أو واحدة من اللهجات الفرعية الموجودة في نقاط التلاقي بين المناطق الناطقة باللهجات الرئيسية.
المحاولات الأولى للكتابة القبطية :
إن أقدم وثيقة موجودة إلى الآن تسجل واحدة من المحاولات الأولى لكتابة لغة التخاطب المصرية بالحروف )، Proto-Coptic( اليونانية، هى بردية هايدلبرج 414 التي ترجع إلى منتصف القرن الثالث قبل الميلاد وتشتمل على قائمة لمفردات قبطية بحروف يونانية مع ما يقابلها في المعنى من الكلمات اليونانية، وهى مكتوبة بواسطة شخص يوناني، وربما سبقت هذه الوثيقة محاولات أخرى لم تصل إلينا.
والمرحلة التالية في العصر الروماني وهى المعروفة بالكتابة القبطية القديمة Old Coptic و ترجع وثائقها إلى المصريين الوثنيين الذين عاشوا في القرنين الثاني والثالث للميلاد، وهى وثائق لا علاقة لها بالمسيحيين لأنها تتصل بالسحر والتنجيم بالإضافة إلى لافتات المومياءات وما شابه ذلك.
المؤثرات اليونانية في اللغة القبطية :
بدأ تأثير المفردات اليونانية في اللغة القبطية مع فتح الإسكندر الأكبر لمصر( 332ق. م ) عندما تبنت الإدارات الحكومية إستخدام المصطلحات اليونانية، فتعلم موظفو الحكومة المصريون اللغة اليونانية، كما تعلمها أهل الإسكندرية بمختلف طبقاتهم، وإمتد إنتشار اليونانية ليشمل المدن الكبرى وبخاصةً في الدلتا،و فى نفس الوقت تعلم اللغة المصرية عدد قليل من اليونانيين.
فمن الطبيعي أن تدخل بعض المفردات اليونانية إلى اللغة المصرية، وتظهر في النصوص الديموطيقية، و قد زادت حصيلة الكلمات الدخيلة مع الزمن، فوجدنا في اللغة القبطية كثيرًا من المفردات اليونانية، وقد تطبعت بالطابع القبطي، وكانت تستخدم جنبًا إلى جنب مع حصيلة مفردات التراث القبطي الأصيل داخل إطار قواعد اللغة القبطية التي لا علاقة لها بقواعد اللغة اليونانية.
لماذا أستخدمت الحروف اليونانية دون غيرها في كتابة القبطية؟
1- لأنها لغة المحتل (كانت مصر تحت الحكم الإغريقي) وحتى يمكن التفاهم معه
2- جذوراللغة اليونانية القديمة والقبطية متقاربتين.
3- إستقبلت مصر كاروز الديار المصرية مارمرقص البشير وكانت لغته الأصلية اليونانية، وترك لنا أنجيله باللغة اليونانية.
4- إهتمام بطليموس 332 ق.م بنشر اللغة اليونانية والثقافة الهيلينية من أجل سهوله فرض سيطرته على البلاد.
5- كانت اللغة اليونانية اللغة الرسمية في الدواوين والمؤسسات الإدارية مثل مدرسة الإسكندرية والمكتبة و المتحف.
6- كانت اللغة اليونانية شائعة في الإمبراطورية الشرقية، وكانت تحمل الأدب اليوناني والفلسفة الهيلينية و حاملة التراث الأغريقي، فضلاً عن كونها لغة التحدث والتخاطب.
تاريخ الترجمة القبطية للأسفار الإلهية
يُرجح أن ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة القبطية بدأت في النصف الأول من القرن الثالث الميلادي، فقد تمت ترجمة الأناجيل إلى القبطية قبل سنة 270 م، لأنه في نحو تلك السنة تأثر القديس أنطونيوس – الذى لم يكن يعرف اليونانية – بقراءة الإنجيل أثناء العبادة في الكنيسة.
فبعدما سمع فصل الإنجيل الذي يقول فيه الرب للغني "إن أردت أن تكون كاملاً فإذهب وبع أملاكك وأعط الفقراء فيكون لك كنز في السماء وتعالى إتبعني " ( مت 19 :21 ) خرج من الكنيسة ووزع ممتلكاته على القرويين، فلا بد أنه سمع الإنجيل يُقرأ باللغة القبطية.
كذلك فإن أقدم ما لدينا من المخطوطات الكتابية بالقبطية، يرجع إلى القرن الثالث الميلادي، كما أن قوانين القديس باخوميوس (حوالي سنة 321 م)، تقضى بأن يقرأ الرهبان الكتب المقدسة بالقبطية.
ولأن كانت ترجمة بعض الأسفار الإلهية بدأت في القرن الثالث -كما أسلفنا القول- إلا أن الترجمة الرسمية لمعظم الأسفار لم تكتمل إلا في القرن الرابع، وكانت باكورة الأسفار المترجمة إلى القبطية نقلاً عن اليونانية هى على الأرجح البشائر والمزامير، وإستمر نشاط ترجمة الكتب الكنسية من اليونانية إلى القبطية إلى زمان مجمع خلقيدونية سنة 451 م، الذي أدت أحداثه المريرة إلى إنصراف القبط تدريجيًا عن التراث المكتوب باليونانية، وفقدان كل إهتمام بمواصلة ترجمته إلى القبطية.
إضمحلال اللغة القبطية
العصر العربي: إستمرت مصر تتكلم القبطية منذ عصر الفراعنة حتى وقت دخول العرب إليها فى القرن السابع الميلادي، كذلك كانت اللغة اليونانية منتشرة في الإسكندرية وبعض المراكز الثقافية في المدن الكبرى والإدارات الحكومية إلى جوار القبطية، خلال حكم البطالمة والرومان.
وبدخول العرب بدأ إستخدام اللغة العربية في الظهور والإنتشار بين المصريين بصورة تدريجية، وما أن حل القرن الثاني عشر حتى كانت معظم بلاد الوجه البحري وكثير من بلاد الوجه القبلي تتحدث اللغة العربية.
وعندما جاء القرن الثالث عشر وضع علماء القبط مؤلفاتهم اللاهوتية باللغة العربية، مما يؤكد سعة إنتشار اللغة العربية بين القبط في ذلك الوقت، ولكن اللغة القبطية ظلت لغة التخاطب في الحياة اليومية في بعض مناطق الوجه القبلي حتى القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر، وإذا كانت قد إستمرت بعد ذلك فبصورة فردية، أو كبقايا تراث منعزل في بعض الأماكن النائية، هذا بخلاف محاولات الغيورين على إحياء التحدث بها خصوصًا خلال القرنين التاسع عشر والعشرين.
العوامل التي أدت إلى اندثار اللغة القبطية من كُتاب مصر في عهد الولاة للدكتور سيدة إسماعيل الكاشف :
1- اللغة القبطية هي اللهجة الدارجة للغة المصرية القديمة في آخر مراحلها ( الديموطيقية ) مكتوبة بحروف يونانية بعد إضافة سبعة حروف (آخر الأبجدية القبطية) تمثل الأصوات التي ليس لها مقابل في اللغة اليوناني.
2- في خلافة الوليد بن عبد الملك الأموي ( 705 م ) أعلنت اللغة العربية لغة رسمية في القطر المصري بدلاً من اللغة القبطية، وعمل على نزع الكتابة من أيدي الأقباط العاملين في الدواوين الحكومية تحت رئاسة قبطي يدعي أنثاس وكان قبلها أمينا على بيت المال (وزير المالية).
3- لما رأى الأقباط أن هذا التغير سيفقدهم وظائفهم عولوا على تعلم اللغة العربية فظهر ما يعرف بإسم السلالم (كتاب الكلمات العربية بأحرف قبطية)، وهو عكس ما هو معمول به في الخولاجي مثلا
4- أمر الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان بتعريب الكتاب المقدس وهى الترجمة العربية الموجودة بين أيدينا حتى الآن، وكذلك الكتب المسيحية.
5- ما لبث اللغة القبطية أن تلقت الضربة القاسمة على يد الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله ( 996 – 1021 م ) الذى أصدر أوامر مشددة بإبطال إستخدام اللغة القبطية تمامًا في البيوت والطرقات والمدارس ، ومعاقبة كل من يستعملها بقطع لسانه، كما أمر بقطع لسان كل أم تستخدم تلك اللغة مع أولادها في المنزل، وقد كان ينزل بنفسه إلى الشوارع، ويتجسس على أبواب البيوت ليرى ما إذا كان هناك أحد يستخدم اللغة القبطية.
6- كان البطريرك غبريال بن ترك ( 1131 – 1146 م ) أول من صرح بقراءة الأناجيل والعظة وما إلى ذلك باللغة العربية في الكنائس، يليها قراءتها باللغة القبطية كما هو الوضع قائم حتى اليوم.
7- ببلوغ القرن الثالث عشر كانت اللغة السائدة هي اللغة العربية، وأخذ علماء الأقباط يصيغون مؤلفاتهم باللغة العربية مثل أولاد العسال – جرجس بن العميد – أبو شاكر بن الراهب – القس بطرس السدمنتي. ولقد كان أول من ألف كتابًا مسيحيًا باللغة العربية هو الأسقف ساويرس بن المقفع.
8- يقول العلامة ماسبيرو في محاضرة له ألقاها سنة 1908 م "من المؤكد أن سكان صعيد مصر كانوا يتكلمون ويكتبون اللغة القبطية في السنيين الأولى من القرن السادس عشر، فى أوائل حكم الأتراك".
9- يقول المقريزي المؤرخ العربي المعروف في القرن الخامس عشر "والأغلب على نصارى هذه الأديرة معرفة القبطي الصعيدي..و نصارى الصعيد و أولادهم لا يكادون يتكلمون إلا القبطية الصعيدية".
10- وفي القرن الثامن عشر ظهرت اللغة القبطية المكتوبة بحروف عربية كما هو الحال قائم إلى الآن لما قاربت على الزوال.
ومن العوامل التي أدت إلى إندثار اللغة القبطية أيضًا :
إضمحلال المؤسسات الرهبانية التي كانت معقلاً هامًا للإيمان المسيحي وحصنا للغة القبطية وتراثها، فبعدما كانت الأديرة مزدهرة وعامرة بالرهبان، في أوائل الفتح العربي تدهور حالها بتعرضها لإضطهادات مريرة، وفرض السلطات الضرائب على سكانها، مما أدى إلى هجرة الرهبان لأديرتهم وإنخفاض عددهم. وعلى سبيل المثال، فرضت السلطات في سنة 710 م على الرهبان القبط – بهدف حصر تسديدهم الضرائب– أن تُكوى أيديهم بالنار، وكل من ضُبط خلوا من هذه العلامة قُطعت يده.
و في سنة 722 م ضُرب الرهبان حتى الموت وقُطعت رؤوسهم لخلو أيديهم من علامة الكي، كما خُرّبت الكنائس وسُلبت محتوياتها.....و في فترة تالية أُلزم القبط جميعًا بأن يحملوا على أيديهم علامة الكي هذه.
http://www.copts-united.com/article.php?A=9589&I=253