خيبتنا وخيبتهم.. هناك فرق

كمال غبريال

بقلم: كمال غبريال
طالعتنا الصحف بخبر طريف يقول: "أصدرت جماعة ناطورى كارتا الدينية اليهودية بياناً، دعت فيه الحكومة الإسرائيلية إلى وقف محاولات الإفراج عن الجندى جلعاد شاليط، المحتجز لدى حركة "حماس"، بسبب عدم التزامه بالشريعة اليهودية، واستندت الحركة فى دعوتها إلى أقوال شاليط فى شريط الفيديو، الذى حصلت عليه إسرائيل مؤخراً، فى إطار صفقة الإفراج عنه، والذى يحكى فيه أنه تناول وجبة الغداء مع أسرته فى أحد المطاعم الدرزية بمنطقة الجليل شمال إسرائيل، وهى مطاعم لا تخضع لإشراف الحاخامية العليا فى إسرائيل، ولا تقدم الأكل الحلال (الكاشير) حسب الشريعة اليهودية."

للوهلة الأولى تذكرت المثل الشعبي القائل: " من شاف بلوة غيره، هانت عليه بلوته"، خاصة عندما أوضح الخبر أن بيان تلك الجماعة اليهودية المتطرفة يقول: ""أن شريط الفيديو الذى حصلت عليه إسرائيل، يثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن جلعاد علمانى، وليس يهودياً متديناً، ولا يتقيد بشريعة السبت، بل ينتهكها جهاراً نهاراً، ولا يضع شال الصلاة على كتفيه، لذلك لا يمكن أن نعتبره أخا لنا فى اليهودية."

قلت في نفسي بكثير من الشماتة وقليل من الارتياح: "مفيش حد أخيب من حد"، وتذكرت القول الخالد: "كلنا في الهم شرق". . وعندما وصلت إلى الفقرة الأخيرة في الخبر، وتقول: " شنت الجمعية الدينية الإسرائيلية للإفراج عن الجندى شاليط، هجوما حاداً على البيان، وقالت إن الحاخام الليتوانى يوسف الياشيف، وعشرات الحاخامات الآخرين أكدوا أن وصية افتداء الأسرى الواردة فى التوراة تنطبق على شاليط، لأنه جندى ضحى بنفسه من أجل إسرائيل. وبدأت الجمعية حملة مضادة فى الأحياء التى يسكنها اليهود الحريديم - المتشددون دينيا - لإقناعهم بمباركة صفقة الإفراج عن شاليط.". . أيقنت مسوقاً بشيطان العجلة، الذي يؤدي بنا إلى الندامة، وفق ثقافتنا الساكنة أو الزاحفة كسلحفاة، أن الحال في إسرائيل لا يختلف عن الحال في سائر أنحاء شرقنا الكبير بهمومه وتخلفه!!

هاهم رجال الدين اليهود يدسون أنوفهم فيما لا شأن لهم به، وهو في هذه الحالة قضية استعادة جندي أسير، ما يدخل فقط في اختصاص وزارتي الدفاع والخارجية الإسرائيليتين. . ها هم أيضاً يخرجون مثل حباينا المصريين بفتوى، تصلح لبرنامج بعنوان "غرائب وطرائف"، باستنكارهم السعي لتحرير جندي إسرائيلي، دفعت به الدولة الإسرائيلية ليزود عنها مع غيره من الشباب، الذين دفع بعضهم حياته ثمناً لطاعته لقادة وطنه، ودفع البعض الآخر الثمن من سلامة جسده، ليقضي المتبقي من عمرة عليلاً ومعوقاً، فيما دفع الجندي جلعاد شاليط الثمن وقوعاً في أسر منظمة إرهابية، لا تراعي حرمة الإنسانية مع شعبها، فما بالنا مع جندي عدو!!

هاهم أيضاً رجال الدين اليهود ينصبون من أنفسهم آلهة أرضية، ويحكمون على هذا بالكفر وهذا بالإيمان والصلاح، والأدهى أنهم يتبعون ذات المنهج الذي تعودنا عليه، في تقييم الكفر والإيمان، على أسس مظهرية بحتة، وليس حتى على أساس ما قد يبوح به فرد من مبادئ وآراء، قد تكون بالفعل معارضة أو مضادة للدين. . ففي هذه القصة الطريفة الرديئة بامتياز، نجد حضرات الحاخامات ينزعون عن الجندي الأسير هويته اليهودية، لمجرد أنه أكل على مائدة دروز، أو لم يحفظ يوم السبت، ولم يضع شال الصلاة على كتفيه!!

يبدو أن التوقف عند المظاهر الخارجية التافهة، هو الصفة المميزة لأغلب هذه النوعية من الرجال، الذين قرروا، ربما لعقم مواهبهم الفطرية، أن يتخذوا الدين حرفة يرتزقون منها، بدلاً من التسول أو السرقة والنصب والاحتيال، أو حتى احتراف الدعارة. . فسواء كنا مضطلعين على تفصيلات الشريعة اليهودية أم لم نكن، فإنه من غير المعقول ولا المتوقع، أن تكون هذه الشريعة أو أي شريعة، تخلع عن المؤمن بها إيمانه، لمجرد ارتكابه تلك الجرائم الطريفة، التي قام المجرّمون لجلعاط شاليط بتكفيره بناء عليها. . هي إذن المظهرية المحضة، معيار ما يعتمدون في سجلاتهم الإلهية، تقييماً للمؤمنين وغير المؤمنين. . ولنا أن نتساءل عن السر وراء هذا التعلق بالمظاهر، وإن كان يرجع فقط لمجرد التفاهة الشخصية لهؤلاء، أم أن الاحتفاء بالمظاهر له ما يبرره، باعتبارها دليلاً علنياً على ولاء الناس لهم وليس لله. . هي دليل على أنهم يأمرون والناس تطيع صاغرة خانعة، وكلما كان الأمر الصادر والمطاع أكثر تفاهة وخواء، كلما دل على أن الناس بالفعل يسيرون وراءهم مغمضي العيون، وهذا بالتحديد هو عين المطلوب!!

الأدهى هو أن نجد ليس فقط هؤلاء الذين يقيمون من أنفسهم أوصياء على إيمان الناس، ويدسون أنوفهم فيما لا يعنيهم من حياة الناس ومواقف الدولة، بل أن نجد أيضاً من يستمع إليهم، ويقيم لهولساتهم وتخريفاتهم اعتباراً، فيذهب إلى أشباه آلهة آخرين أكثر تساهلاً، ليستفتيهم " أن وصية افتداء الأسرى الواردة فى التوراة تنطبق على شاليط". . فمصير الجندي الأسير إذن لا يتعلق بواجبات الدولة التي أرسلته للقتال إزائه، لكنه مرتهن بتقييم الحاخامات ذوي اللحى الكثة لمدى إيمانه، وما إذا كانت شروط فداء الأسرى بالتوراة تنطبق عليه أم لا. . مشكلة من يقيمون اعتبار لتدخلات رجال الدين في كل أمور الحياة هي المشكلة الحقيقية. . فمن الطبيعي أن يتواجد بالساحة مخرفون وطفيليون، يدسون أنوفهم فيما لا يفقهون فيه من أمور الحياة. . هؤلاء يسهل تجاهلهم، لو لم تعرهم الجماهير التفاتاً، بل ربما لو قوبلوا بالإهمال وليس بالسخرية، لبحثوا عن طريقة أخرى لإثبات ذواتهم المريضة!!

نقرأ أيضاً من بين التهم أو الأحكام التي أصدرها وكلاء الله من الحاخامات على شاليط، تهمة العلمانية، ويالها من تهمة!!. . العلم الذي مكن أربعة ملايين يهودي، من التواجد وسط محيط معاد من أكثر من 300 مليون عربي، هو في نظر ذوي اللحى الكثة تهمة توجب الوصم والإدانة. . المتخلفون وسدنة الجهل صنف واحد، كأنهم نسخ متعددة لكتاب واحد، وإن اختلفت صفحات الغلاف. . أليس كذلك؟

لم استغرق طويلاً في تأملي لتلك القصة، المطابقة تماماً لما يحدث في مصرنا المحروسة، وإن اختلفت الرايات المرفوعة، لكن النهج واحد، والغباء واحد، ومحاولة حصار الناس والحياة في كهف ضيق ومظلم واحدة. . لأنتبه بعد سويعات إلى فرق جذري بيننا وبينهم. . بين خيبتنا وخيبتهم، فخيبتهم بالرطل، أنا خيبتنا فبالقنطار، فأمثال هؤلاء الحاخات ومشايعيهم في إسرائيل أقلية، تلهو وتعبث كنوع من الفولكلور الشعبي، أما الأغلبية الكاسحة فعلمانيون صرحاء وشجعان. . يقودون دولتهم وحياتهم بثقة واقتدار، هو ذاته ما يجعلهم يسمحون ويتسامحون مع طغمات التخلف، الأعجز من أن تغير من واقع الأمر بقدر قلامة ظفر.

أما في مصرنا المحروسة، فالحالة نييييييييييييييييييلة قوي.

مصر- الإسكندرية
kghobrial@yahoo.com