استقالة وزير‏!‏

بقلم: مفيد فوزي

سواء كانت استقالة الوزير محمد منصور أو إقالته‏,‏ فالأمر سيان‏,‏ لقد غادر قطار منصور محطة سوء الحظ علي قضبان المتاعب وصار حرا طليقا ووصل آخر المطاف الي محطة القطاع الخاص التي قام منها قطاره متجها الي العمل العام والمنصب المرموق قرابة ثلاث سنوات لم يعرف فيها طعم النوم ولا التنفس الطبيعي‏!‏ ووزارة بحجم النقل أكبر من قدرات رجل واحد ولو كان فقيها في الإدارة‏,‏ لقد خرج منصور مهزوما من وزارة النقل ليس بسبب سوء الحظ أو الطالع وليس بسبب صدام برجه مع أبراج أخري‏,‏ انما بسبب‏(‏ العنصر البشري‏)‏ والأخطاء الجسيمة الناتجة عن الصدأ الذي يغطي شرايين السكة الحديد وأوردتها‏,‏

وكان من الطبيعي أن يجري منصور عملية قلب مفتوح للسكة الحديد التي وصلت حالتها الي الحضيض وعالجها الوزير بالمسكنات و‏..‏ الاعلانات‏!‏ وكان طبيعيا أن يقدم منصور استقالته‏,‏ لقد كان محمد منصور مخلصا وهو يحلم بقطار آمن بكل المقاييس ولكن الراصد ـ بأمانة ـ لجهد الرجل يكتشف أنه كان يرمم بناء آيلا للسقوط‏,‏ إذ ورث الرجل تركة مثقلة من حكومات سابقة كانت تقوم بعمليات لجهاز أصبح مهلهل يحمل الموت علي عجلاته وما عاد قطارا آمنا منذ سنوات وسنوات‏,‏ وصارت السكة الحديد المصرية‏(‏ ثاني سكة حديد في العالم تاريخيا‏)‏ في السبنسة من حيث الترتيب‏!‏

لم تفاجئني استقالة منصور‏,‏ فقد كنت أشعر أنها راقدة في عقله الواعي والباطن‏,‏ وكنت أشعر أنه رجل إدارة وليس مهندس انسانية‏,‏ ولم أقرأ فنجان الوزير ولا سألت العرافين ولكني استشعرت ذلك بخبرة سنين طويلة أحملها فوق ظهري وأنا أحاوره في مكتبه مرتين‏,‏ مرة للتعارف الشخصي بحضور مستشارته الإعلامية‏,‏ ومرة ثانية للحوار التليفزيوني المطول الذي غضب فيه عندما طلبت منه أن يبرئ ذمته أمام الناس لان المرفق الذي كان يتحمل مسئوليته كوزير‏,‏ مرفق مرمطته عشوائية المعالجات وتستيف الأوراق‏,‏

رفض الرجل أن يعلق حوادث قطاراته علي وزراء نقل سبقوه مؤكدا أن الجميع ـ وزراء سابقون أو حاليين ـ في خندق واحد‏,‏ مغزي سؤالي هو اني كنت أريد معالجة للمرفق الآيل للسقوط من فوق قضبان الاهمال‏,‏ المرفق الذي يصدر لنا الكوارث‏,‏ فمن الوارد أن يخسر بالمليارات‏,‏ ومن الوارد أن يهجره الناس ومن الوارد أن يضطروا للركوب وهم قلقون خائفون‏.‏ أصبح محمد منصور حين يرد علي الموبايل أو تليفونه الخاص يرتاب ويؤهل نفسه لأخبار سيئة‏,‏ وحدوث كارثة تضيع فيها أرواح ويخرج الباقون الناجون أحياء بعاهات‏!‏

أكتب عن تجربة عشتها بنفسي مع المخرجة عزة شعبان وطاقم المصورين حين أردت أن أسجل ـ صوت وصورة ـ ما يجري من استعدادات في الورشة قبل قيام القطار الي محطة مصر‏,‏ رصدت العدسات كل تفاصيل‏(‏ تستيف الأوراق‏)‏ وليس المتابعات المستمرة أو الصيانة الدورية‏,‏ أقول تستيف الأوراق بثقة‏,‏ لأن الجرار الذي قاد العربات تعطل قرب سيدي جابر وانتظرنا وقتا طويلا مملا ومحطما للأعصاب ومؤثرا علي الضغط والسكر حتي يأتينا‏(‏ جرار‏)‏ آخر يجرنا لتستغرق رحلتنا من القاهرة للاسكندرية ست ساعات من النكد المتواصل وسط تذمر الناس ـ الركاب ـ وسخطهم علي السكة الحديد وسنينها‏,‏

أريد أن أنبه الي أنه من تقاليد العمل الاعلامي أن أطلب ركوب قطار للتصوير وتسجيل لقاءات مع الركاب‏,‏ إذ ان التصوير داخل القطار غير مسموح إلا بإذن‏,‏ ومع ذلك فالقطار التعس الذي ركبناه من اختيار الهيئة الموقرة‏!!‏ هل ما حدث هو بفعل فاعل لفضح السكة الحديد إعلاميا ولو اني لست من انصار نظرية المؤامرة؟ ربما‏,‏ ففي السكة الحضيض‏,‏ كل شيء جاهز‏,‏ ولكني أذهب الي بيت القصيد دون أن أغفل بشكل موضوعي‏(‏ محاولات منصور‏)‏ الساعية الي قطار في حجم قطارات الاعلانات الأبهة‏,‏ بيت القصيد أن العنصر البشري قد‏(‏ تيبس‏)‏ أي‏(‏ تكلس‏)‏

والكلمتان دلالتهما أن الأخطاء البشرية في السكة الحديد صارت في الصدارة حين فقدوا الولاء للمرفق وفقدوا الحماس‏,‏ بالإضافة الي الاستهلاك المهين للجرارات وسوء حال العربات خصوصا قطارات الصعيد غير الآدمية‏,‏ ان من يبحر في دنيا الهيئة سوف يكتشف سوء حال القضبان والفلنكات والسنافورات اليدوية وتعقيدات التحويلات والاشارات التي سمحت بعناق القطارات وخروج بعض القطارات من المحطات الي الشوارع مهشمة كل شيء في طريقها‏,‏ ان نقص المهارات قد أدي الي تعاظم الخسائر‏,‏ فليست قضية السكة الحديد‏,‏ قضية جرارات جديدة إنما قضية عقلية جديدة تدير مرفقا حكوميا‏.‏

ان القطار الألماني ـ وهو حديث العهد ـ غير مدعوم من الدولة‏D.B))‏ أي‏(‏ الدوتش بان‏)‏ ويعمل بطريقة الكترونية تقلص الخطأ البشري‏,‏ وهي قطارات بلا سائق‏,‏ وقيمة ثمن التذكرة يناسب فئات الناس والألماني يحافظ علي قطاراته لأنه تعلم منذ نعومة الأظفار أن الانتماء للوطن بالسلوك لا بترديد الأغاني‏.‏ إن محمد لطفي منصور‏,‏ لم يفشل مثلما لم يفشل عصام شرف ولا الدميري ولكن عناصر أخري‏(‏ أفشلوه‏),‏ لقد كان المتصور منذ حادث سقوط امرأة من حمام قطار ان‏(‏ ننسف قطارنا القديم‏)‏ وتتجه الأموال الي‏(‏ نهر الحديد‏)‏ الذي يشق الوادي‏,‏ ولكن عادة‏(‏ تستيف الأوراق‏)‏ بعد كل حادثة واستنفاد الطاقات في الدكاكين الاعلامية جعل الاصلاح مجرد ترميم وبضعة تصريحات بالأمل‏!‏

ولنفترض أن وزيرا جديدا جاء‏,‏ فهل يجيء بحلول سحرية؟ الإجابة‏:‏ لا‏,‏ سوف يدرس وتطول دراسته وربما يبدأ بأسلوب حوافز يعيد بها الحماس والولاء للمرفق المتهالك‏,‏ ومن يصلح المحطات وقطارات الصعيد ومن يحسم مواعيد القيام والوصول؟ وسوف يختار معاونين جددا للهيئة وسوف يجس العمال النبض وكم يحصلون علي فوائد‏,‏ سيدخل الوزير‏(‏ الدوامة‏)‏ وتبدأ السكة الحديد من أول السطر‏!‏و‏.....‏ وادندن مع محمد عبدالوهاب ياوابور قوللي رايح علي فين؟ فهل يصل الوابور بالسلامة لحبيب الروح مستني‏..‏ أم رايح في داهية؟‏!!

نقلا عن الاهرام

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع