عبور البرزخ بين الجنس والأمومة

بقلم: خيري شلبي

برغم الفراق كانت الآنسة ساييكي وحبيبها يتراسلان يومياً‮ ‬وهما علي يقين من أن اتحادهما معاً‮ ‬غير قابل للكسر،‮ ‬وحينما صارت الآنسة ساييكي في التاسعة عشرة من عمرها كتبت قصيدة ولحنتها وغنتها علي البيانو‮. ‬كان اللحن حزيناً‮ ‬وبسيطاً‮ ‬وجذاباً‮. ‬أما الكلمات فكات رمزية تأملية يصعب فهمها‮. ‬فأضفي هذا التناقض علي الأغنية بعض الروحانية والحميمية‮. ‬وبالطبع كانت الأغنية بكلماتها ولحنها تعبر عن النداء المكتوم في داخلها لحبيبها البعيد‮. ‬ولقد‮ ‬غنتها مرات قليلة أمام الناس إذ كانت بطبيعتها خجولة،‮ ‬ولكنها محبة للغناء،‮ ‬فانضمت إلي فرقة موسيقي بوب في الجامعة،‮ ‬وقام أحد المعجبين بالأغنية بتسجيلها علي شريط كاسيت وأرسلها إلي صديق له يملك شركة تسجيلات موسيقية،‮ ‬فأحب الأغنية وأقنع ساييكي بأن تسجلها في الاستوديو الخاص به في طوكيو‮. ‬وكانت زيارتها الأولي لطوكيو حيث التقت حبيبها هناك فنهلا من الحب حتي الثمالة‮. ‬ثم إذا بالألبوم يحقق نجاحاً‮ ‬كاسحاً،‮ ‬بيع منه ملايين النسخ وحقق لساييكي ثروة هائلة تكفيها مدي الحياة تنفق ببذخ كيفما تشاء‮.

‬كان هذا حوالي عام ‮٠٧٩١ ‬حينما أذيعت الأغنية في جميع محطات الراديو،‮ ‬يعني قبل أن يولد كل من أوشيما وكافكا‮.‬ تلك هي الحكاية التي حكاها أوشيما لكافكا‮. ‬لقد أدهشته،‮ ‬ولكن دهشة كافكا بلغت ذروتها المذهلة حينما سأل أوشيما عن اسم تلك الأغنية ففاجأه أوشيما قائلاً‮: »‬عنوانها‮: ‬كافكا علي الشاطئ‮«. ‬ردد كافكا العنوان مذهولاً‮: ‬كافكا علي الشاطئ؟‮! ‬قال أوشيما‮: »‬نعم كافكا علي الشاطئ كافكا تامورا‮! ‬اسمك أنت صدفة عجيبة أليس كذلك؟‮!«. ‬يرد كافكا‮: »‬ولكن كافكا ليس اسمها الحقيقي ومع هذا فتامورا هو اسمي الحقيقي‮«. ‬قال أوشيما‮: »‬لا يهم فقد اخترت أنت اسم كافكا أليس كذلك؟‮«. ‬فأومأ كافكا‮: »‬لقد حسمت أمري منذ فترة أن كافكا هو الاسم الصحيح لشخصيتي الجديدة‮«. ‬فيعلق أوشيما‮: »‬وهذا هو بيت القصيد‮«. ‬ثم يستطرد مواصلاً‮ ‬سرد بقية القصة‮: ‬مات حبيب الآنسة ساييكي وهو في العشرين من عمره ميتة مجانية عبثية بشعة،‮ ‬في الوقت الذي كانت فيه أغنية كافكا علي الشاطئ في أوج نجاحها الباهر‮. ‬مات الحبيب في مظاهرة طلابية،‮ ‬حيث اشتبه فيه زملاؤه فداسوه بالأقدام ومزقوا جثته‮. ‬فتوقفت ساييكي عن الغناء نهائياً،‮ ‬عزلت نفسها عن الناس تماماً،‮ ‬وانقطع ذكرها حتي أبواها لا يعرفان عنها أي شيء سوي أن ثروتها العالية من حصيلة الأغنية،‮ ‬تكفيها للعيش حياة كريمة في أي مكان‮.
 
‬قيل لقد حاولت الانتحار في الأدغال فأودعت في مصحة نفسية‮. ‬وقيل إن البعض شاهدها تعمل في بعض المؤسسات‮. ‬وقيل بل تزوجت وأنجبت طفلاً،‮ ‬وبعد خمسة وعشرين عاماً‮ ‬ظهرت الآنسة ساييكي مرة أخري في مدينة تاكا مانسو بعد وفاة والدها،‮ ‬ثم بعد رحيل أمها باعت المنزل الذي ولدت وتربت فيه وانتقلت إلي شقة في وسط المدينة،‮ ‬ثم إنها تحدثت مع شقيق حبيبها الذي أصبح كبير العائلة،‮ ‬فعينها مديرة لمكتبة كوميورا‮. ‬وها هي ذي لا تزال إلي اليوم رشيقة وجميلة كما في صورتها في‮ ‬غلاف ألبوم كافكا علي الشاطئ ولكن بعد فقدان ابتسامتها وإشراقتها أصبحت تحيط نفسها بجدران عالية تبعد الآخرين عن اقتحامها‮. ‬كل عالمها منحصر في الشقة والمكتبة وسيارتها الفولكس فاجن‮. ‬وطوال وجودها في مكتبها بالمكتبة لا تكف عن الكتابة ولا أحد يدري ماذا تكتب،‮ ‬ولما كانت الآنسة ساييكي صديقة لأم أوشيما فقد أعجبت بحبه للقراءة والموسيقي،‮ ‬فألحقته بالمكتبة مساعداً‮ ‬لها،‮ ‬وبفضل هذه الصداقة احتفظت أم أوشيما بنسخة من ألبوم كافكا علي الشاطئ،‮ ‬وبأريحية نزل أوشيما علي رغبة كافكا الحارقة فأتي له بالألبوم ليسمعه،‮ ‬بل استطاع أن يستنسخ له النوتة الموسيقية للحن‮.‬ ولكن لماذا كانت المكتبة مهمة بالنسبة للآنسة ساييكي كأنها المعبد بالنسبة للمتدين الورع؟ الواقع أن حبيبها كان دائم الإقامة فيها يقرأ بشغف ونهم،‮ ‬ويبيت في هذه الغرفة التي يبيت فيها كافكا الآن‮. ‬

وكانت ساييكي تزوره فيها كل يوم يمارسان الحب ويدرسان ويستمعان إلي الموسيقي،‮ ‬ثم يقول أوشيما‮: »‬توقفت حياة ساييكي بشكل أساسي وهي في العشرين حين مات حبيبها،‮ ‬دفنت عقارب الساعة في روحها وتوقفت هناك،‮ ‬الوقت الخارجي طبعاً‮ ‬يمضي حولها كالمعتاد لكنها لا تتأثر به‮. ‬بقيت دائماً‮ ‬جذابة صبية يحوطها لون من الغموض الساحر الجذاب هو الآخر‮«.‬ وإذاً‮ ‬فهذه الغرفة البديعة الموحية كانت مهد العشق في عز صباه وعنفوانه بين الآنسة ساييكي وحبيبها الفقيد‮. ‬ولئن كان كافكا تامورا قد انجذب إلي الآنسة ساييكي وعالمها السحري الغامض فإنه بعد أن استمع إلي قصتها من أوشيما انبثقت في داخله وشائج راح يتوقف عندها طويلاً،‮ ‬منها هذه الصورة المعلقة في برواز علي الحائط لطفل يقف بالمايوه علي شاطئ البحر،‮ ‬تكاد تتطابق مع صورة مماثلة تركها في بيتهم هي الصورة التي جمعته بأخيه علي الشاطئ،‮ ‬ولعل الطفل الذي في هذه الصورة وحده علي الشاطئ هو كافكا بطل الأغنية،‮ ‬هو حبيبها طفلاً،‮ ‬والأرجح أن يكون هو نفسه‮: ‬كرو أو كافكا تامورا‮. ‬ثمة شعور داخلي‮ ‬غامض يوحد بينه وبين الصورتين ومن هذه الوشائج كذلك أن الفترة التي‮ ‬غابتها ساييكي عن مدينتها وأهلها هي نفس الفترة التي تزوج فيها أبوه‮. ‬إن عيشها في طوكيو،‮ ‬وزواجها،‮ ‬وإنجابها طفلاً،‮ ‬وعودتها إلي أهلها،‮ ‬كل ذلك يشي بأن الآنسة ساييكي هذه ربما تكون أمه التي ـ بنفس الغموض ـ تزوجت من أبيه ثم أنجبته وأخته ثم انفصلت وغادرت بشكل مبهم لا يعرف كافكا أسبابه ولا أي شيء عن ظروفه‮. ‬شيء ما في قلبه يوشك أن يقنعه بأن هذه الشخصية هي تلك‮.

‬ثم إن انجذابها إليه والرقة في التعامل معه إلي حد التباسط وإلغاء الحواجز،‮ ‬ودعوتها له للجلوس إليها كلما قدم لها قهوة المساء،‮ ‬واستماعها إليه بأريحية،‮ ‬كل ذلك يشعره بأن الدم يحن إلي نفسه إذا وجد نفسه في شخص آخر مجهول الهوية بالنسبة له‮. ‬ولقد شجعه ذلك علي البوح لها بهواجسه،‮ ‬فراح يلف ويدور حول الموضوع بأسئلة ملفوفة يوجهها إليها‮.
‬فلما عرف منها أنها كانت في طوكيو تجري بحثاً‮ ‬اجتماعياً‮ ‬عن مخلفات الحرب علي الجنود وأهاليهم في طوكيو،‮ ‬تذكر أن أباه هو الآخر كان معنياً‮ ‬بهذا الموضوع عناية فائقة،‮ ‬وإذاً‮ ‬فلابد أنهما تلاقيا علي سكة ذلك البحث ثم قام الاستلطاف بينهما فتزوجا،‮ ‬إلا أنها في تحليله ـ حسب ما فهمه عن شخصيتها بعد استماعه إلي قصتها ـ لم تكن مستعدة نفسياً‮ ‬لإعطاء نفسها لشخص آخر‮ ‬غير حبيبها الفقيد الذي كان وهي روحا واحدة في جسدين،‮ ‬وبناء عليه شعرت أنها تكذب عاطفياً‮ ‬علي زوجها،‮ ‬فكانت صادقة مع نفسها حينما تأكدت من استحالة التواؤم المستقر مع شخص آخر،‮ ‬فانفصلت بقوة وبحسم لا يقبل التراجع لدرجة أنها تخلت في سبيل الانفصال عن ابنها البالغ‮ ‬من عمره أربع سنوات،‮ ‬ولعلها رفضت الطفل لأنه ليس من صلب حبيبها وإن كانت قد تعاطفت مع الابنة فأخذتها ولابد أنها انفصلت عنها بدورها أو لقيت مصيراً‮ ‬مجهولاً‮. ‬

جعل يصرح بخواطره هذه شيئاً‮ ‬فشيئاً،‮ ‬فإذا بها تقول له بوضوح‮: »‬إن نظريتك هذه التي تريد أن تثبت بها أنني ربما أكون أمك ليست صحيحة‮«. ‬ولكنها ـ في نظره ـ لم تكن مقنعة في قولها،‮ ‬لم يكن صوتها ينضح بالصدف بل باللباقة في التخلص من مأزق الخوض في هذا الموضوع من أساسه بما أنها لا تقبل الخوض في سيرتها الذاتية من قريب أو بعيد،‮ ‬فهي لا تنفي ولا تؤكد،‮ ‬ولا تظهر عليها أي عاطفة،‮ ‬الأمر الذي وضع كافكا بين شعورين كلاهما جامح وعنيف‮: ‬الجنس والأمومة،‮ ‬وكلاهما من مصدر واحد،‮ ‬فحرمانه من الأمومة لا يضارعه في القوة سوي حرمانه من الجنس،‮ ‬غير أن احتياجه للأمومة كان هو الأقوي بطبيعة الحال،‮ ‬لقد كان ولوعاً‮ ‬باكتشاف أمه بقدر ولعه بالرغبة في التحرر من الأسرة برمتها‮!‬  

 نقلا عن الوفد

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع