بقلم: لميس جابر
ستظل العلاقة بين السياسة والتاريخ علاقة جذب وشد وتوتر فالسياسة تتربص وتتجني وتستغل أحداث وشخصيات التاريخ وفق مصلحتها وتوجيهات المرحلة وربما تتغير الصورة من النقيض إلي النقيض في عهد واحد والتاريخ أيضا يقف بحقائقه الشبه ثابتة وحتي الغامض منها بعض الشيء كالشوكة في حلوق السياسيين تستطيع أن تكدر صفوهم إن كانوا علي قدر من الفكر المستقبلي. وهم قادرون علي طي صفحات بعينها وإخفائها في مكان أمين أو غير أمين وقبل ان يستريحوا تأتيهم وريقات من مكان آخر وربما من مخبأ آخر لتثير حولهم الزوابع وتقلب الموازين رأسا علي عقب. ومثال علي ذلك فالثورة الفرنسية في نظر عهد ما هي ثورة احتلال وقتل وتخريب وحرق وتدمير واقتحام الأزهر الشريف وتدنيسه.
وأن نابليون جاء بجنوده لقطع الطريق الي الشرق الأقصي علي الإنجليز والحجة كانت »قتل المماليك« وأن المقاومة الشعبية في ثورة القاهرة الأولي والثانية هي الأساس ولذلك تكون لها المساحة الأكبر والأكثر تفصيلاً وتعظيماً. وكذلك »سليمان الحلبي« الذي قتل القائد »كليبر« هو بطل عربي جاء من حلب ليقتل المحتل الغاصب في بلد عربي شقيق هو »مصر«. كذلك يقيم التنوير في هذا العهد بأنه ليس له علاقة بالتعليم في مصر وأن المكسب في كتاب وصف مصر هو للفرنسيين المحتلين وليس للمصريين وأن المطبعة التي أتي بها نابليون أخذها جنرال »مينو« وهو يغادر أرض مصر إلي فرنسا مرة أخري.
وفي عهد قريب تتغير النظرة تماما إلي الحملة الفرنسية الي درجة الاحتفال بها فهي تورد العلم والتنوير والمطبعة وكتاب وصف مصر العبقري. واكتشاف حجر رشيد الذي كان سبباً في فك رموز الخط الهيروغليفي وفهم اللغة المصرية القديمة وبداية علم المصريات الذي كشف ستر تاريخ آلاف السنين من الحضارة العظيمة وهذه النظرة تعتبر ثورات المصريين علي »بونابرته« هي غوغائية غير عاقلة قصيرة النظرة أدت إلي خراب القاهرة وتدميرها وحرق أحياء منها بالكامل وغير المعقول أن يقاتل الشعب بالعصي من يحمل مدفعاً..
وأن الحلبي لم يكن بطلاً ولا مغواراً بل كان مأجوراً وجاء من بلده ليقتل »كليبر« لحساب المماليك وأيضا لإخراج والده من السجن في بلاد الشام.. وهذا القول موثق في أوراق التحقيق في القضية بالفعل. وكذلك تختلف النظرة »لمحمد كريم«، حاكم الإسكندرية وقت وصول الحملة فيقول »الجبرتي«: إن »كريم« كان يتصل سراً »بمراد بك« و»إبراهيم بك« أمراء المماليك المهزومين بعد دخول نابليون إلي القاهرة ويدعوهم إلي خطة لمهاجمة الفرنسيين وأن تفاصيل المؤامرة وصلت إلي بونابرته فحكم عليه بالموت - وكان قديماً في كتب التاريخ معروفاً لنا أنه قتل عندما تزعم المقاومة ضد المحتلين في الإسكندرية - المهم.. كان العرف في هذه الأوقات يسمح بدفع الفدية لإعفاء الرقبة.
إلا أن »محمد كريم« رفض ان يدفعها وأخذ يدعو الناس إلي دفعها له ويقول »الجبرتي«: إنه سار في الشوارع يصرخ في الناس ويقول: »إفدوني يا مسلمين« ولكن لم يحدث وتم تنفيذ حكم الإعدام.. وينفي بعض المؤرخين هذه القصة ويتعللون بأن الجبرتي ربما أخطأ وربما تداخلت معه الأحداث لأنه كتب كتابه الشهير عن »زوال دولة الفرنسيين« بعد سنوات وأن محمد كريم لا يمكن ان يكون قد فعل ذلك ولكن بالمنطق يمكن تحليل هذا الموقف بأن »محمد كريم« رفض ان يدفع لنفسه الفدية لأنه هذا الفعل مخز وحقير وسوف يصفه الناس بالجبن وتقل قيمته ويهان قدره وأن الحل من وجهة نظره أن يفتديه الناس من أموالهم بدليل أنه لو كان جبانا لكان قادراً علي التراجع في اللحظات الأخيرة ومعروف أنه كان ذا مال وبالطبع مستحيل أن يكون بخيلاً..
وكذلك يمكن تبرير محاولة اتصاله بالمماليك وأنها ليست خيانة يستوجب عليها العقاب فالمماليك هم الجنود المكلفون في هذه الأيام بحماية مصر ولا يوجد علي أرضها جنود غيرهم وقد حاربوا وهزموا ومات منهم الكثير. فهو خائن في نظر بونابرته وليس في نظر المصريين وهنا يلعب الحس الشعبي والفكر الجمعي للمصريين دوراً في القدرة علي خلق الأبطال وتعظيمهم.. فقد أصبح »الحلبي« بطلاً لمجرد أنه قتل القائد الفرنسي العظيم.
نقلا عن الوفد
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=8913&I=238