عذراً: لا بوعزيزي جديد

بقلم : الكاتب و المحلل السياسي نضال نعيسة

  بالقطع، لم تكن حادثة إحراق التونسي محمد البوعزيزي لنفسه مدبرة من قبل أساطين “الربيع العربي”، وكانت، تماماً، بنت لحظتها، وظروفها الذاتية والموضوعية، غير أنه يمكن الجزم بأن استغلال واستثمار الحادثة كان مدبراً وموظفاً بدهاء، وعناية فائقة في سبيل الإطاحة بنظام حكم الرئيس زين العابدين بن علي، وتم تضيم وتهويل الحادثة بأعلى التقنيات الإعلامية المتوفرة، كي تحقق الهدف المنشود في تجييش الرأي العام، وتسخينه، وكان ما كان، وبقية “الحتوتة” باتت معروفة.

 
وقد صـُوّر ما حدث على نحو رومانسي زاهٍ أخاذ يسحر الألباب، من إنه “ربيع عربي”، وأنه انتقال لهذه الشعوب من طور من الشمولية والقهر والاستبداد إلى عوالم جديدة من العدل، والإحسان، والمساواة، وأن هذه المجتمعات التي اجتاحتها حمى “الربيع العربي”، قد أضحت، بين عشية وضحاها، مجتمعات إفلاطونية مثالية، وأن الأنظمة التي ورثت الأنظمة المطاح بها، هي أنظمة طهرانية نورانية منزلة من السماء، ومعصومة، لا يأتيها الباطل لا من خلف ولا من أمام، ولا مكان فيها لأي شكل من الجور والظلم والعذابات والمعاناة، وتنتفي منها كل أشكال التمييز المعهودة، وممارسة موبقات السياسة التي سادت خلال أكثر من نصف قرن، من عمر ما يسمى بـ”الدولة الوطنية” العربية.
 
غير أن الأيام، وبعد مرور وقت قصير، أثبت نقيض هذه التصورات، والطوباويات الفكرية الخيالية الحالمة، بل تمت البرهنة والإثبات أن هذه الشعوب انتقلت من حفرة إلى حفرة أخرى، ومن نفق إلى آخر، وكانت ضحية خدعة دولية كبيرة، ولعبة أممية مدروسة، لتغيير أنظمة، وتنصيب أنظمة أخرى تناسب مقاس، ومصالح وتوجهات تلك القوى الكبرى، التي أعطت شرارة البدء لمشروع ما يسمى بـ”الربيع العربي”. وبدأت معاناة من أنماط جديدة، وغير مألوفة للشعوب المستهدفة بـ”الربيع” تطفو على السطح، من جديد، تبرهن كلها، أن الموضوع برمته لم يكن إلا مجرد وهم وسراب، وبدأت تتراكم عوامل، ومشاعر جديدة من الغيظ، والغضب، والقهر، والإحباط.
 
إلى ذلك، وكما تواترت أنباء، فقد “قام بائع سجائر تونسي بإحراق نفسه، اليوم الثلاثاء 12 آذار/ مارس، في شارع الحبيب بورقيبة، في مركز العاصمة التونسية، تعبيرا عن احتجاجه على ظروف المعيشة السيئة التي يكابدها. وحسب أقوال الشهود فإن الرجل قبل أن يسكب على نفسه البنزين ويحرق نفسه كان ينادي “هذا الشباب، يبيع السجائر، هذه العطالة!” وتمكن المشاة في الساحة بسرعة من إخماد الحريق ولكن الرجل نقل إلى المستشفى جراء حروق عميقة”. (مقتبس مصادر عدة).
 
وكان الرجل، بذلك، يحاكي، ويستعيد، في ال’ن ذاته، عملية حرق النفس والانتحار المأساوي، التي قام بها بائع الخضار التونسي الشهير محمد بوعزيزي لنفسه في كانون الأول/ديسمبر عام 2010، الذي اعتبر صاعق التفجير، وشرارة “الربيع العربي” الأولى، علّ بائع السجائر، يستنهض الهمم، من جديد، وعلّ تلك القنوات الفضائية ذاتها، مع جوقات التزمير، والتطبيل، إياها، التي تلقفت موضوع، على عجل، وأخذت بتسويقه، على نحو شاعري، ورومانسي، فدائي وبطولي كربلائي فذ، وضعت فيه كل اللائمة، والإثم، في تلك المأساة الإنسانية المروعة، على نظام حكم الرئيس زين العابدين بن علي، ونجت في ذلك أيما نجاح.
 
مرّت حادثة إحراق “بائع السجائر” لنفسه، وسط العاصمة التونسية، مرور الكرام، ولم يلتفت لها الإعلام “الثوري” العربي، ولا الميديا الغربية المتعاطفة مع “فقراء” العرب ومىسيهم، ومضى الرجل بحاله، وكأنه كان كومة من القش تحترق بصمت، في تلك اللحظات في تونس، ولم يقم “السيد الغنوشي”، بزيارة المصاب في المشفى، ولم يخرج أحد من رموز النظام “الثوري الربيعي”، ليقول للشعب التونسي الغاضب والمحبط “فهمتكم…فهكتكم..فهمت بائع السجائر…إلخ”. كما لم نر مقابلة “مصادفة” في الشارع، لعابر سبيل يقول لنا “هرمنا…هرمنا، بانتظار هذه اللحظة”، وبتلك الشحنة العاطفية المؤثرة، والدفق الثوري الغامر البوليفاري، الذي عشناه جميعاً مع نكبة البوعزيزي “الأول”. هذا ومن الجدير ذكره، أن أكثر من شاب، قام بإحراق نفسه، في أكثر من مدينة، وعاصمة عربية، ولكن من دون أن يحظى بتلك التغطية الإعلامية الواسعة ذاتها، التي نالتها حادثة البوعزيزي “الأول”، ولم تكن حادثة بائع السجائر التونسي هي الأولى في هذا السياق.
 
إذن، من آخره، لا بوعزيزي جديد، ولا من يحزنون، والموضوع معطل حتى إشعار آخر، ولا طائل من إحراق أي شاب لنفسه في هذه الأيام، كتعبير عن احتجاج سياسي، فلا نية بتغيير أي نظام، وطالما أن ليس هناك، في المدى المنظور، أي ربيع تونسي، أو عربي جديد. ودمتم سالمين، وبألف خير.
نقلان عن : levant.tv

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع