علّي صوتك بالغنى..

أيمن فايز عطية

بقلم: أيمن فايز
كنتُ أشاهد التليفزيون في حلقة من برنامج العاشرة مساءًا وكان يحضرها لفيف من المثقفين بمصر.
الأستاذ: علي سالم - الكاتب المسرحي
الأستاذ: خالد يوسف - المخرج السينمائي
الأستاذ: نبيل شرف الدين      - الصحفي والإعلامي
الأستاذ: جمال بخيت - الشاعر
الأستاذة: منى الشاذلي - المحاورة
وكان موضوع الحلقة يدور حول التطبيع مع إسرائيل ودور المثقف المصري منه.
انقسم الضيوف إلي فريقين، فريق مع التطبيع والآخر يرفضه، وحمل الموضوع معاني كثيرة ومتشابكة تسودها الأحاسيس، وأُثير الجدل حول معاهدة السلام ????(إتفاقية كامب ديفيد) وهل من حق الشعب الاعتراض على هذه الإتفاقية خاصة وأن إسرائيل لم تعترف بحق الشعب الفلسطيني، واختلف البعض هل هناك دولة يطلق عليها إسرائيل أم كيان نعترف به.
فجذبني البرنامج حتى مطلع اليوم الجديد كنت في حالة شغف لسماع الحلقة.. وحين انتهت الحلقة تألمت لما دار من لقطات فيديو قدمها المخرج موجهة تثير الغضب والهياج لدى الشعب البسيط، فالمخرج يدرك أهمية الصورة ويدفعنا على الأخذ بالثأر ولما تحمله الصور من دماء فهو يعلم جيدًا أن الصورة تعادل ألف كلمة.
فقد جعلنا نعود للماضي بدلاً من أن نتطلع للمستقبل ونعمل له، فإنني أدركت حقًا ما يسود إعلامنا من التأثير والتغييب والمشاجرات الحنجورية لجذب أكبر عدد من المشاهدين.
نسينا أن رسالة الإعلام والفن هي التنوير والتثقيف وليس التضليل كما فعل وزير الإعلام الاسبق بالعراق مع شعبه، فغالبًا هذه سمة الإعلام العربي.
وما صدمني كثيرًا شاعرنا الأستاذ جمال بخيت الذي أظهر تعصبه الداخلي وانصب على وجهه بل تحول كلامه إلى قذائف لا تعرف أين المصير، وكأننا في حالة استعداد قصوى للحرب بدافع الوطنية بدلاً من أن نسلح أنفسنا بالثقافة والاختلاف للغني بل أثارنا للانتقام والتفخيخ.

قد نسي شاعرنا الأستاذ جمال بخيت قصيدة "العواصف" لجبران خليل جُبران..
حدثنا عن المحبة.
فقال: إذا المحبة أومت إليكم فاتبعوها، إذا ضمتكم بجناحيها فأطيعوها، وإن جرحكم السيف المستور بين ريشها.... كل هذا تصنعه بكم لكي تدركوا أسرار قلوبكم، تصبحوا بهذا الإدراك جزدًا من قلب الحياة... لا تملك المحبة شيئًا، ولا تريد أن أحد يملكها. لأن المحبة مكتفية بالمحبة.

كلمات ترقى بنا إلى عالم الروح والتخلي عن الأرضيات.
أيضا ما جرحني وكنتُ أتوقع منه خيرًا مخرجنا الشاب الأستاذ خالد يوسف، فقد نسى أن أستاذه الكبير المخرج يوسف شاهين حينما قدم درة أعماله في مهرجان "كان" فيلمه "المصير ??" قدم الفيلسوف ابن الرشد مناضل بالكلمة وليس السلاح وقال كلمته الشهيرة على لسان أحد أبطاله "للأفكار أجنحة".
وحدثنا المخرج خالد يوسف كيف يربي ابنه -ويفتخر بذلك- تربية بها التعصب والكراهية لجيل لم يشاهد هذه الخلافات ونصنعه كما نريد صورة على مثالنا بدافع الوطنية، وقد نسى هو أيضًا قصيدة جُبران..

..أولادكم ليسو لكم
أولادكم أبناء الحياة المشتاقة إلي نفسها، بكم يأتون إلي العالم، ولكن ليس منكم.
أنتم تستطيعون أن تمنحوهم محبتكم،و لكنكم لا تقدرون أن تغرسوا فيهم بذور أفكاركم، لأن لهم أفكارهم خاصة بهم.

الوطنية هي جائزة نوبل للسلام ولا للحرب في العصر الحالي الذي يزود البشرية باختراع لخير الآخر يتنعم به الجميع، فقد علّمنا أهلنا زارع شجرة الدوم لا يأكل من ثمرها لأنها تثمر بعد مائة عام، فالذي يزرع يحصد، فهو حقك الذي تزرعه بالمحبة وتحصده بالشكر.

وما أدهشني أيضًا مداخلات التليفونات الخارجية وما يغلب عليها من رجالات التربية والتعليم، كانت تنم على الكره والغل وتحثُ على الانتقام وغشاوة القلوب، فكيف نثق فيهم في تربية أبنائنا في المستقبل؟.
بل ما زاد الطينة بِِلة مداخلة الفنان القدير الأستاذ محمد صبحي الذي قدم لنا مثال جيد في عمل عائلة ونيس وما تقدمه من قيم تربوية نحمل لها كل تقدير وأعجاب، فشعرت في مكالمته أيضًا أنه ينتمي إلى حزب الأخذ بالثأر بل أختلف حديثه مقدمته عن مؤخرته بكلام مرتجل ينقض نفسه بنفسه، وخرجنا في نهاية حديثه الذي لم ينتهِ منه بل بالكنترول بقوله "فلوسه أحسن منه" زي الغاية تبرر الوسيلة فكيف أصدقه..! فحقًا إنه ممثل!

أيضًا ما شد انتباهي المحاوة اللامعة تارة مع ما تقوله وتارة تختلف على ما تقوله، فهي في صراع على ما تبطنه وما تريد أن تظهره فكان ظاهرًا علي تعبيرات الوجه، فهي لغة التواصل وما يطلقون عليه علم الاتصال.

وقد أعجبني أستاذنا الوقور الأستاذ علي سالم فكان في صمته حكمة الشيوخ فإنه حقق معادلة "اللي صوته عالي موقفه ضعيف"، فكان راسخ كالصخر لا يتزعزع يدرك ما يقوله ويبتعد عن ما يريدون أن يقوله عن لسانهم، فحقق قول "تكلمت كثيرًا فتعلمت الندم أما عن الصمت فلم أندم" (أرسانيوس)، فكل منا أسير لكلمته حينما ينطق بها.
بل وصلنا معه بلغة مثقف يُعني ما يقوله ويتحمل نتائجه، فهو عَرّف من قبل في أحد اللقاءات التلفزيونية السابقة مع الأستاذ نبيل شرف الدين تعريف الحرب: "هو تدمير قوات العدو وعتاده من أجل فرض شروط السلام عليه"، فحقق معادلة وهي أختلف معك أبدًا لا عليك. فهذه لغة المثقف حينما ينطق صمته يجنبك الكلام الغير مسؤول فإنه سيد كلمته فكان حقًا كبير.
أيضًا جعلنا نضع أيدينا على دور النقابات وما عليها وما لها وما طرأ عليها من تغير إلى جماعة التكفير والتهجير.

وأختم بالضيف الأخير فكان حقًا هو مفاجأة اللقاء، الأستاذ نبيل شرف الدين، فإنه يمتلك أدواته ويعرف ما له وما عليه، فهو يملك حق الدفاع القوي بالعلم والمخزون الثقافي وهو متسلح بالعلم والمعطيات، فيذهب بنا إلي براهين مستقبلية أساسها المدخلات الصحيحة وليس التوقعات.
فذكرني بالفنان بابلو بيكاسو حينما رسم لوحته الشهيرة جرنيكا Guernica بالأبيض والأسود "القرية الفانية تولد ثانية"، قُضي على سكانها في دقائق معدودة على يد الجنرال فرانكو فخلدها الفنان بابلو بيكاسو عام ???? وأصبحت رموز فظائع الحرب وأيضًا رمزًا في هيئة الأمم المتحدة، وهي تُستقبل بحرس شرف رسمي وتُفرش لها الأرض من تحتها ببساط أحمر وتطلق لها الطلقات النارية احتفاءًا بها فتُقابل كما يُقابل الملوك والرؤساء، فهنيئا للفنان الذي يدعو إلى الحرية والسلام، تذكرت أيضًا غاندي البارز السياسي والزعيم الروحي للهند، فقد قام بالعصيان المدني اللاعنفي ووهب حياته للمقاومة السلمية عاش متواضعًا قابل الاحتلال بالصمت والصيام لا بالسلاح، فكان في صمته رصاص يخيف القوى المتسلطة فكان يقول "حيث يوجد الحب يوجد الله".
هل نسينا نتيجة توقيع معاهدة السلام حصل الزعيمان (الرئيس المصري الراحل أنور السادات ورئيس وزراء إسرائيل الراحل مناحيم بيجن) مناصفة علي جائزة نوبل للسلام عام ??؟

أخيرا أحب أن أتذكر معكم لماذا تراجعت جامعاتنا في ترتيبها مقابل المجتمع الدولي؟
لماذا خسرنا اليونسكو؟
وماذا سنخسر؟
نريد أن نعيش ثقافة حب الحياة، نتمتع بالسلام نعيش مع الكلمات القائلة:
لم يعد في الأرض حب
لا ولا إيمان
إنما في الأرض حرب
تهدم الإنسان
*****
من أقاصي الأفق حقدٌ
هبَّ في وجهِ السما
زارعًا في الكونِ جُوعًا
ناشرًا فيه الشقا
*****
آهِ من مالٍ تَجنَّى
في هلاكِ الأبرياء
وفِّروا المالَ فيبققي
رحمة لِلبُؤساء
*****
يا أخي لا حربَ بعد
اليوم تُفنى لا قِتال
يا أخي اللهُ حُبٌّ
ليسَ للبُغضِ مجال
*****
هَلِّلوا! فالأرضُ تُذكي
جَمرَة الإيمان
هلِّلوا! والحبُّ يُنميْ
وَحدَةَ الإنسانْ
(كلمات: الأب جان كوكباني)

و لسه الأغاني ممكنة..