كمال غبريال
بقلم: كمال غبريال
هي الثقة بعلم وذكاء صديقي العزيز وابن بلدي د. يوسف زيدان، ما حتم أن يأتي عنوان هذا المقال بصيغته هذه، والتي قد توحي للبعض بأنني أهاجم الرجل شخصياً، رغم أن هذا آخر ما يمكن أن أفعله مع أي كائن من كان، فما بالك مع رجل أعتز بصداقته، وبإنتاجه العلمي والروائي. . إنما هي الثقة بأن الأخطاء القاتلة في صلب مقاله محل المراجعة في سطورنا هذه، لا يمكن أن تكون قد وردت -معاذ الله- عن جهل بأصول التحليل والتناول العلمي للظواهر، سواء الفيزيقية أو الاجتماعية والسياسية، والأغلب في ظني هو وقوع سيادته في شرك حسن نية، دفعه لتناول الأمر بمنهج يسعى لأن "يرضي جميع الأطراف"، توسلاً للطرف المعتدي، كي يستفيق قبل فوات الأوان، أي قبل "خراب مالطة"، أو بالأصح خراب مصر. . هذا المنهج الوسطي شائع الاستخدام في ثقافتنا، ويقتضي توجيه اللوم للضارب والمضروب، أو للقاتل والمقتول، وكأنهما شريكان متساويان في ارتكاب الجريمة.
كان من الممكن أن أوافق شخصياً، أو حتى أحبذ هذا النوع من التناول على مستوى الخطاب، لما يسمى مشكلة طائفية في مصر، لو كان مثل هذا الخطاب متعسف الوسطية، يمكن أن يصل بنا إلى نتائج عملية حاسمة، تردع المتجاوز لكل القوانين، والمنتهك لأبسط المعايير الإنسانية. . لكن كيف نستطيع أن نجبر هذا المعتدي على تعديل سلوكه على المستوى العملي، ونحن نعجز عن مواجهته بجرائمه بقوة وشجاعة على مستوى الكلام، والحروف المسكوبة في أوراق جرائد، مصيرها سلة المهملات؟!!
في المقال الرابع من سلسلته السباعية في جريدة المصري اليوم يوم الأربعاء 7 أكتوبر 2009، طالعنا د. زيدان بمقاله" "أسرار الخلاف وأهوال الاختلاف .. المتأسلمون والمتأقبطون". . يتناول فيه تيارات الإسلام السياسي بمختلف ألوانها تحت تسمية "المتأسلمون"، وهي التسمية التي شاعت للفصل بين هؤلاء، وبين المؤمنين من المسلمين، الذين يتخذون من الدين وسيلة للتقرب لله، وليس لأي أغراض أخرى، يسعى وراءها تجار الدين، جلباً للثروة أو السطوة. . وقد أوضح المقال بالفعل من يقصدهم بتسمية "المتأسلمون"، وسقط من المقال -ربما سهواً- تحديد ماذا يقصد باصطلاح "المتأقبطون"، فتركه شائعاً، لتنتشر ظلاله على جميع الشعب القبطي.
يقول د. زيدان عن المتأسلمين في مقاله: "لما انسكب عليهم "النفط" الآتى من خارج الحدود المصرية، جعلوا الحياة فى مصر جحيماً مقيماً، بدعوى عجيبة هى أن غير المسلم كافرٌ يحلُّ ماله وعِرْضه ودمه!"
هذا تحديد وتقرير حقيقي وشجاع ورائع. . رائع أيضاً أن يقول: "وبدأ المتأقبطون دعاواهم العريضة، كردِّ فعل مباشر على دعاوى المتأسلمين، بل ابتكروا دعوى أعرض وأسخف صاروا يعبِّرون عنها بصيغٍ كثيرة، منها أن: مصر وطن الأقباط!". . وإن كانت المقارنة هنا، والتي توحي بالتعادل والتساوي، مضكحة أو مبكية حسبما يتراءى للقارئ. . جميل أن يعترف أن من يطلق عليهم المتأقبطون، لم يكن لهم غير مجرد رد فعل، وياله من رد فعل حميد أو طريف، أوضحه المقال بقوله: "دخل الفريقان- المتأسلمون والمتأقبطون- مؤخَّراً، فى مواجهات خفية وعلنية؛ فمن اعتداءات علنية "متأسلمة" على المصريين المتَّشِحين بالقبطية، إلى شكوى دولية وعويل عالمى من ضراوة (اضطهاد الأقباط فى مصر) ومن مواقع إنترنت "علنية" يهاجم فيها المتأسلمون (المسيحية) من دون تفرقة بين مذاهبها العقائدية!". . عجيب ما يصوره المقال من تعادل بين "أفعال" إجرامية يرتكبها المتأسلمون، في حق مواطنيهم الأقباط، بل وفي حق المصريين عموماً والأجانب، وبين ما وصفه المقال بوصف صحيح بكلمة "عويل". . إن صوت العويل مزعج بالفعل لمن ينشد الهدوء والاسترخاء، في وطن استباحه المجرمون والقتلة الملتحفين بعباءة الدين ومقولاته!! . . المذهل أن أقباط الداخل كانوا ومازالوا شديدي التقدير والتحسب، للإزعاج الذي قد يسببهم صراخهم للسادة المستريحين، أو لمن يوجهون إليهم الطعنات وشعلات اللهب التي تحرق متاجرهم ومنازلهم وكنائسهم، فالتزموا في عمومهم الصمت الرهيب، مكتفين بالدعاء لله في قلوبهم وداخل مخادعهم، وليس عبر ميكروفونات الصراخ والتحريض، المبثوثة في كل الزوايا والأركان. . هم فقط (المارقون) من أقباط المهجر، الذين أنشأوا مواقع إلكترونية يبثون فيها لوعتهم وعويلهم، ومعها تجاوزات بعضهم الحمقاء، التي لا تعدوا أن تكون مواء قطة واهنة، في مواجهة خوار ثيران وعواء ذئاب ضارية متأسلمة، متسلحة بالخناجر والمتفجرات، وبمقولات مقدسة أشد ضراوة وفتكاً، ليس الفتك بالأقباط وحدهم، بل بالحضارة والمتحضرين على سطح كوكبنا!!
يمضي المقال موغلاً في متاهات فن المغالطة، تسولاً لتساوي بين طرفين، لا يمكن لأي معالجة علمية منصفة أن تحكم بتساويهما، قائلاً: "والمواجهة العلنية، فيما أرى، أهون خطراً من المواجهات الخفية والأفاعيل الرمزية التى تنـزُّ من الطرفين، فالمتأسلمون يطلقون اللحى وينقِّبون النساء ويحجبونهنَّ، كعلامة صريحة تفرق بين المسلم وغير المسلم، من دون اعتبار لحقائق من مثل: كان كُفَّار قريش يطلقون لحاهم أيضاً ويرتدون الجلابيب! . . . . وفى المقابل من تلك المواجهة الخفية، الرمزية، بالغ المتأقبطون فى دَقِّ الصلبان على أيديهم، كعلامة على أنهم: أقباط للأبد!"
أي تهافت أكثر من وضع دق الأقباط للصلبان على أيديهم، تلك العادة القديمة الآخذة في الانقراض، والتي لايكتشفها على يد صاحبها إلا المدقق أو بمحض الصدفة، في مقابل مظاهر الفرز الطائفي الصاخبة للحي المرسلة والحجاب والخمار والنقاب، تلك التي لا اعتراض للأقباط عليها، لأنها شأن لا يخصهم، وإنما يخص أصحابها، الذين قد يرون أو لا يرون أنها مظاهر لعصر غير العصر الذي نعيش فيه، لكنها أياً كان الرأي فيها، تعطي دلالات فرز مجتمعي، كما قد تشير وإن كان ليس بالحتم، إلى رؤى أيديولوجية دينية مفارقة وخطيرة!!
نتفق إلى حد بعيد مع د. زيدان وهو يقول: "وتقوقع الشباب (القبطى) على نفسه، ابتداءً من مجموعات مدارس الأحد ودروسها التى تقطر مرارةً وشعوراً بالظلم والاضطهاد". . لكن هذا رد فعل سلبي، ينعكس ضرره على الأقباط وحدهم، ولا يترتب عليه عدواناً على الآخر، وإن كان الأقباط بتقوقعهم هذا، يحرمون الوطن من جهود قطاع يعتد به من أبنائه، كان ينتظر منهم أن يكونوا في طليعة مسيرة التنوير والحداثة في مصر.
ورغم أننا نعتقد أن المقال قد فشل بجدارة في توجيه رسالة محددة وواضحة للمجتمع المصري المحتقن بالتدين المظهري، والأبعد ما يكون عن رسالة الأديان، وهي السمو بروح الإنسان إلى آفاق علوية متطهرة، فإننا لابد وأن نشيد بما جاء في نهاية المقال:
"صار أقطاب المتأسلمين والمتأقبطين كهنةً يوجِّهون العقول بإطلاق البخور وإهداء المسابح. . . . وبينما اتخذ المتأسلمون صورة نمطية تقترن إعلامياً بالعنف، ادَّعى المتأقبطون لأنفسهم صورةً تقترن بالمحبة.. لكنك لا تكاد تحك جلد الواحد من أولئك أو هؤلاء، إلا ويظهر الوجه الحقيقى لكليهما. . . . وما بين زعم أولئك ووَهْم هؤلاء، لم تعد مصر وطناً لأحد، بل صارت قنبلة موقوتة قد تنفجر فى وجه الجميع."
لدي في النهاية كلمة أهمس بها في أذن صديقي د. يوسف زيدان: (لا محيص) يا صديقي من مواجة كل بجريمته، دون محاولة الإيحاء بتعادل الأخطاء كماً وكيفاً. . مواجهة المتأسلمين بجرائمهم في حق الإنسانية والوطن والحضارة. . ومواجهة الأقباط بجرائمهم في حق أنفسهم، وفي حق وطن في أشد الاحتياج لجهودهم لإقالته من عثرتة الحضارية.
kghobrial@yahoo.com
http://www.copts-united.com/article.php?A=8318&I=224