نذير الماجد
بقلم: نذير الماجد
عند تفحصنا للعقل الديني في أكثر تجلياته الشرعوية بروزًا نلمس انشدادًا متأصلاً نحو النص، وهو انشداد يستفحل أحيانًا ليبدو كما لو أنه ارتداد نحو شكل من أشكال الصنمية. النص يحل محل الأيقونة التي تتمحور حولها كل الديانات المدعوة بالوثنية، فعبودية النص تستأثر بحصة الأسد في رسم ملامح القانون الذي هو الشريعة بحسب التراث، الطواف حول الوثن يستبدل بالاستناد الكلي لذلك النص المعصوم الذي يتمتع بقدرة تأثيرية بالغة على التفكير، النص المقصود هنا هو ذلك الذي لا يسمح إلا بتفسير حرفي لأن كل تأويل هو إعمال للعقل وبالتالي فهو خروج على النص وتعطيل لشموليته. وبموازاة هذا التعطيل الكلي لأي فعالية عقلية خارج النص يتم تشييء المتلقي ليغدو مثل أداة أو شيء آلي ليس بوسعه التأثير على النشاط التفسيري.
وكما أن عبودية النص هي بمثابة ارتداد للتفكير الصنمي بوصفه امتهان كلي لهذا القابع تحت هيمنته حيث يفقد النضج فيرتد نحو مرحلة القصور، فهي كذلك تؤدي إلى تعطيل أبرز إمكانات العقل أي تلك القدرة الذهنية الخلاقة على استخراج الكليات على هذا النحو يصبح الفقه فقهَ أحكامٍ جزئية منتزعة من غاياتها ومقاصدها، لأن فقه المقاصد مرتبط بشكل وثيق بالعقل، واستخراج المعنى أو الغاية هي فعالية عقلية مستقلة عن النص وإن لم تكن خارجة عنه بوصفها إحدى آليات التفسير المستمدة من طبيعته.
النص والتفسير الحرفي يزيح العقل والتأويل، هذه هي السمة التي تلاحظ عند تشريح العقل الديني بشكل عام، ولكن من الظلم تعميمها على كل التيارات الفكرية العقدية والفقهية. هناك من الباحثين من تمكن من تشكيل مقاربة أقرب إلى الإنصاف حول تاريخ التفكير الفقهي والعقدي في الإسلام الذي هو الأشد تمركزًا من بين الأديان حول النص.
الملاحظ هو وجود نزعة اعتزالية في التراث الشيعي تقابل النزعة النصية التي تشكلت منها مدرسة الحديث، هذا التوغل الاعتزالي والذي كان ناتجًا عن الأفول والضمور المبكر للاعتزال السني، استطاع بموجبه العقل الشيعي أن يؤسس ذاته على معطيات العقل ومنجزات التأويل الذي سيشكل معيار التفاوت بين الاتجاهات الفكرية الأساسية في التراث الإسلامي -سواء كان سنيًا أم شيعيًا- سنجد مدرسة العقل التي تمثل الاتجاه الفلسفي، وهي المتهمة بانشداد صنمي آخر وفقا لخصومها أي أننا هنا بإزاء صنمية مغايرة لتلك التي تكتنف النص، هي صنمية العقل. لكن هذه المدرسة تشترك في امكانية التأويل مع اتجاهين آخرين: الاتجاه المدرسي "أهل الكلام" الذي يوظف العقل ولكن تحت مظلة النص، والاتجاه العرفاني الذي يلتزم منهج الإشراق ويستبطن النص ليستخرج منه دلالات غنوصية.
في مقابل هذا النزوع نحو التأويل الذي يجمع بين الاتجاهات الفكرية المحتضنة له، أي الاتجاهات الفلسفية والكلامية والعرفانية، سنعثر على أتباع التفسير الحرفي الذين سيشكلون فيما بعد المدرسة الظافرة للفقه الشرعوي، وهي التي تتسم بتأصيل صارم للقانون أو الفقه، بيد أنها وفي استفحال شرعوي مضاعف تجنح لاختزال الدين ليغدو مجرد سلسلة أحكام جزئية يجب أن تراعي بدقة وصرامة، بل إن جوهر الخلاص يكمن في هذه المراعاة الدقيقة لكل تفاصيل المنجز الشرعوي، إن أقل إهمال من شأنه أن يؤدي إلى الحرمان الأبدي وغضب الله والجحيم، وبالتالي تصبح النمذجة هي التقيد الحرفي بتعاليم وأحكام الفقه: إذا أردت الخلاص والفضيلة فما عليك إلا أن تتماهى وتتحرك كدمية وفقًا لإيقاع شرعوي آلي، أما الإيمان ومعها الإرادة فمستبعد كليًا، وتبعًا لذلك تستبعد المعرفة والمقاصد والحكمة وبالتالي العقل.
ومع أن هذه المدرسة تميل إلى أن القانون الديني قانون اعتباري وليس واقعيًا، أي أن المشرع الديني اتفق على وضع جملة أحكام وقوانين بشكل اعتباطي ولغايات معينة إلا أنها تتجاهل هذه الغايات لأنها ليست معنية بمقصود المشرع وإنما بمنظوقه، والنتيجة المزيد من التأطير والتحجيم للإنسان والعقل من خلال الشح في الخيارات وتقليص هامش الإرادة، وهكذا تتكون ذهنية التحريم المتأرجحة بين دائرة الحرام ودائرة الواجب، فيما ستضيق دائرة المباح بصفتها بعدًا مضافًا أو طارئًا، إن الأصل هو التحريم وكل الطقوس التي يلتزم بها المرء ما هي إلا "طقوس عبور" تستهدف الانتقال إلى ضفة الحرم الديني.
الواجب والمحرم يشتركان في النفي، فما هو واجب ليس سوى تحريم للترك. والدين في صورته البدائية ليس سوى ذهنية تحريم، فالديانة وفق تعريف عالم الاجتماع "إميل دوركهايم" هي "تلك المجموعة المتماسكة من العقائد والفرائض والأعمال المتعلقة بالأشياء المحرمة" ومع أن هذا التحديد يقصر التصور الديني على الجانب الطقسي والاجتماعي دون التجربة الذاتية الفردية، إلا أن له نجاعة كاملة في تفسير ظاهرة الإسلام الشرعوي بما هو امتداد لشكل ديني بدائي مسكون بالتحريم. وهو تحريم ناتج عن الخوف والخشية الدائمة من الأشياء فيما يتصل بالجماعات البدائية تارة ، والجهل بالنص نفسه فيما يتعلق بالمهوسين بالتحريم تارة أخرى.
ثمة عوامل أخرى تساعد على ترسيخ ذهنية التحريم، فإلى جانب غياب الحس النقدي والمعرفة التاريخية للسياق الثقافي للنص نجد كيف تعمل "عقدة الاستكمال" على تفاقم واستفحال العقل الشرعوي، فما من شيء إلا ويجب أن يشبعه الفقه تمحيصا وتفتيشا بالمشروعية الدينية، عقدة الاستكمال ترغم الفرد على تتبع رأي الفقيه حتى في الواقعة الجزئية، أي الموضوع في لغة الفقهاء وفي هذا ما يكفي لتجميد ملكة التفكير عند الفرد القابع في إسار العقل الشرعوي، ولأن اكتشاف حكم المواضيع هو في نهاية التحليل فعالية اجتهادية محتكرة لدى رجال الدين من الفقهاء فإن أي فعل يجب أن يحظى بموافقتهم التي من دونها يصبح الفعل مفتقدا للشرعية، هنا تتظافر عقدة الاستكمال لدى الفرد مع تغييب العقل في تعميم الحكم الكلي لينتج في الأخير ذلك الإنسان المتردد الحائر الذي كل همه هو أن لا يتورط في فعل الحرام.
إن تغييب المعاني والغايات من جهة وتأكيد شكل الحكم وحرفيته من جهة أخرى أنتج جمودًا فكريًا وانسدادًا فقهيًا محكمًا في المجتمعات العربية والإسلامية، وهي التي شهدت بروز التيارات الدينية السلفية المعادية للعقل والمشككة في قدرة الإنسان على تحديد خياراته، ثمة شواهد عديدة تدعم هذا التصور المرير لواقع الإنسان المسلم الذي تفصله هوة شاسعة عن نظيره في المجتمعات الأخرى، ففيما وصل الآخرون إلى غزو الفضاء يكتف المسلم بالاشتغال في الجدل القديم الجديد حول ثبوت الهلال، أبالعين المجردة هو أم بالمسلحة، أيجوز اللجوء للوسائل الفلكية أم لا يجوز؟ ومرد ذلك مجرد خلاف في تحليل لغوي محدود حول نص مرجعي قصير.
إن هذا العقل الشرعوي هو نفسه الذي أباح الاحتفال بالعيد الوطني بعد إجراء تعديل طفيف أو "احتيال لغوي" ليصبح العيد الوطني يومًا وطنيًا وبذلك يتحول الحكم من الحرمة أو الابتداع إلى الجواز بل الندب والاستحباب باعتبار أن "حب الوطن من الإيمان" وهكذا يرتفع الحظر عن اليوم الوطني مع أن الاحتفال والمرح والبهجة التي يفترض أن تحدثها هذه المناسبة هي نفسها في كلتا الحالتين، إلا أن ذلك ليس مهمًا مع هذه التخريجة الذكية التي تمكنت من الحفاظ على روح ونقاء الشريعة.
يتسلل العقل الشرعوي إلى الجانب الآخر، أي الجانب الشيعي الذي يطغى عليه اليوم ذهنية نصية شرعوية تغيب المعنى وتحتقر المقاصد وتعطل العقل، ففيما يفتي أحد أقطاب التشيع بجواز مصافحة المرأة خلف قماش رغم ما يكتنفه هذا الحكم من تناقض مع شروط العفة، نجده في مقابل ذلك وفي تناقض صارخ يحجم عن السماح للمرأة الرقص أمام مثيلتها في الجنس، أي المرأة نفسها، وفيما تجعل العقود المؤقتة من المرأة موضوعا أيروتيكا ورغم ما يحمل ذلك من شحنة تشييئية إلا أن الذهنية الشرعوية تلتزم موقف الرفض أمام أي توافق أو سكون نفسي أو اختلاط مشوب بالشبهات حسب تصورها بين الرجل والمرأة حتى وإن كان ذلك لا يتعدى محادثة عابرة في شبكة الانترنت "وهنا أنا لا أمزح فهذه فتوى شرعية موجودة فعلاً"، ولكن كل تلك اللقاءات المشوبة بالفحش والدنس ستتحول إلى طهر وعفة بمجرد تلاوة صيغة لغوية محددة لعقد مشروط بالوصاية وكان الله غفورًا رحيمًا!
والهدف من ذلك كله ليس العفة والاتزان الأخلاقي بقدر ما هو الحرص على تطبيق الحكم الشرعي، فالإنسان الأمثل وفق التفكير الشرعوي هو الإنسان الخاضع المستكين أو "الطيّع" وليس المفكر القادر على اكتشاف المعنى وتحديد الهدف، ليس المطلوب من المتدين أكثر من تقيدات هستيرية بالطقس والشكليات الشعائرية، ليس المطلوب هو روح العدل وكرامة الإنسان وحقه في حياته وحريته وإنما تلك الأحكام الجزئية التي لم تعد قادرة تماما على تأمين هذه الحاجات كما كانت في الماضي، ما هو مطلوب إذًا هو شكل الشريعة وليس روحها. وبما أن تفسير النص لازال تفسيرا حرفيا فإن النتيجة هو إخفاق الفقه في مواكبة التغيرات والمستجدات ولذلك سيعمد كما رأينا إلى إجراءات ملتوية "مضحكة أحيانًا" تكشف قبل كل شيء عن شعور مأزقي وإدراك مرير بحجم المسافة الفاصلة بين الفقه والواقع.
http://www.copts-united.com/article.php?A=8309&I=223