القس. أيمن لويس
بقلم: القس/ أيمن لويس
وشيء آخر.. مَن يقدم نقد للآخرين فلا بد أن يقبل أن لدى الآخرين أيضًا نقد له، ومن يدخل مجال الدراسات النقدية َعليه أن يتسلح بقواعد هذه اللعبة من البحث والدراسة والقدرة على استنباط المعلومات والتحلي بالأمانة العلمية والدقة في نقل المعلومة والجرأة والاحترام لرأي الآخر.
وأتذكر أيام دراستي بكلية اللاهوت الإنجيلية وبخاصة الدكتور المسئول عن مادة الدين المقارن كيف كان يحاورنا متسربلاً بالفكر المتحرر للدرجة التي كنا أحيانًا نشك فى مدى صدق إيمانه، وكان يرفض الأفكار السطحية والكلام المرسل والادعاءات التي ليس لها أسانيد علمية، كان دائمًا يسأل عن مصدر المعلومة، كانت الدراسة بالكلية لا تنتهج أسلوب التلقين وتعتمد على قليل من الكتب التي نمتحن فيها ولكن كثير من الوقت بين الكتب والمراجع لعمل الأبحاث ومناقشتها، إنه بحق معهد صناعة الفكر. فشكرًا لهؤلاء الأساتذة الذين علمونا الأمانة العلمية منذ أكثر من ربع قرن.
أما عن ما يسمى بالحوار بين الأديان هذه الأيام فهو يختلف عما سمعنا عنه وتعلمناه أثناء الدراسة الأكاديمية فلا قواعد ولا التزام، هو حالة من الفوضى الغيرمسؤولة فقد خرج من دائرة المتخصصين لساحة المتنازعين، كما أن الدوافع والأهداف التي يتحركون بها تؤكد فشل الحوار قبل أن يبدأ، فنجد أن الذين يتقدمون للحوار فريقان الأول يعتلي قمة الهرم وهم بعض من قادة السياسة من الرؤساء والملوك ومعهم نخبة من رجال الدين وقادة الكنائس والمعاهد المتخصصة، لأن هناك أديان تجمع بين الدين والسياسة، لهذا نجد أن النظام فى بعض الدول يعمل على دعم وحماية الدين، أما المسيحية فبعد أن وضع السيد المسيح النقط فوق الحروف عندما قال "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله" (مت22 : 21)، تم الفصل بين الدين والسياسة وتحدد الأمر، الأوطان للشعوب والدين لله، من كل أمة وشعب وقبيلة ولغة، فالدين للروح وطهارة النفس.
وهؤلاء السياسيون تختلف أهدافهم من هذا الحوار فمنهم من يدعم الحوار بقصد تحقيق مكاسب للدين الذي يعتنقه، فنجد مثلاً على سبيل المثال أن ملك يدعو لعقد مؤتمرًا للحوار الديني بشرط أن لا تطئ أقدام المتحاورين من أصحاب الأديان الأخرى أرض بلاده لأنها مطهره لا يجب أن يدنسها الكفار! كما أن بلاده على قائمة الدول التي لا تحترم حقوق الإنسان وأبسطها حرية العقيدة.. وإلخ.. وإلخ.. وألخ!!!، وآخرون وهم الساسة الغربيون يدعمون الحوار لأسباب حقوقية ودعم الديمقراطية وأغراض سياسية، أما الفريق الثاني المعنيون بالرسالة وهم من نراهم عبر الفضائيات وهؤلاء الأكثر تأثيرًا على القاعدة العريضة من الجمهور وهم الأكثر تلاحمًا مع الناس وهم سبب حالة الغضب عند العامة لأن منهم من يكون أسلوبه مستفزًا للآخر ومنهم من تجاوز الخطوط الحمراء، وإن كان الأخوة المسلمين يغضبون مما يروه تجاوزًا من بعض المسيحيين عبر الفضائيات، فالمسيحيين غاضبون منذ زمن بعيد حتى قبل ظهور الفضائيات ليس من النقد بل بسبب تجاوز فريق من الدعاة، غاضبون من أقوال وأفعال، ولأنه لا يوجد من يراعي مشاعر الأقباط.. ولم نسمع حتى كلمة عيب من كبير!، فنحن نعيش في مجتمع لا يعرف إلا ثقافة القطب الأوحد أما الآخر فليس له حقوق. وعندما يتكلمون عن الازدراء بالأديان يتحدثون عن الازدراء بالدين الإسلامي فقط وليس المقصود الازدراء بكل الأديان، لأن الذين يطالبون بقانون يجرم الازدراء بالأديان يزدرون جهارًا عيانًا بعقائد الآخرين بل يؤمنون بأنهم جميعهم كفار ومشركين .
إن المسيحي له خلفية ثقافية مختلفة عن الآخر ودوافعه وأهدافه من الحوار تنبع من هذه الخلفية، إننا نؤمن أن الإنسان مخلوق حر لأن الإيمان المسيحي دعوة للحرية "فإنكم إنما دعيتم للحرية أيها الإخوة" (5 : 13) "فإن حرركم الإبن فبالحقيقة تكونون أحرارًا" (يو8 : 36). لذا فالإنسان له الحق في التفكير حتى فيما يختص بالأمور اللاهوتية، والإنسان الذي ميزه الله ببركة العقل يكون من الطبيعي والمنطقي أن يمارس النقد فى حياته، فالنقد ليس عملاً مشبوهًا، فالنقد ممارسة هامة فهو إظهار الحقائق وتأكيد البرهان.. لأن التفكير النقدي يعني عدم قبول الأمور إلا بعد اختبارها، وهذا واجب وصحي، بل ويسألنا الله القدير في نصوص الوحي بعمل ذلك "امتحنو كل شيء. تمسكوا بالحسن" (1تس 5 : 21) وأيضًا "أيها الأحباء لا تصدقوا كل روح بل امتحنوا الأرواح هل هي من الله.. إلخ " (1يو4 : 1)، "فاحصين الكتب كل يوم: هل هذه الأمور هكذا" (أع17 : 11) ونصوص أخرى كثيرة. فمن خلال الفكر النقدي يتم التنوير والدفع للأمام في المسار الصحيح، وكلما كان هناك فكر نقدي إيجابي بنّاء كلما كان هناك دفع لعجلة الارتقاء الثقافي، ولكي يتحقق هذا فالنقد له قواعد والتزامات أخلاقية مثل.. الموضوعية، والنزاهة، وأن يكون هادفًا، وبالوسائل العلمية، والوثائق التاريخية، والالتزام بالأمانة العلمية، وصلاح الضمير ونقاء الدافع. والنقد هو اجتهاد من أعمال العقل إن الذين يرفضون إخضاع النص الديني للنقد الفكري يقدمون إساءة إلى الله، حيث أنهم يظهرون الله فى موقف العاجز عن مجاراة ومواجهة العقل والفكر البشري وحاشا أن نضع الله القدير في هذا الموقف الضعيف وفي هذا الضعف المخزي!.
فما جال بخاطري أي فكر نقدي لنص من نصوص الوحي (الكتاب المقدس) إلا وخرج الوحي منتصرًا وزدت يقينًا بصحة الإعلان وقوة الإيمان. من هذه الخلفية ينطلق المسيحى للتعامل مع النصوص الدينية وهذا لا يمثل أي مساس لقدسية نصوص الوحي بل العكس هو الصحيح، فثقتنا المطلقة في عصمة الوحي وقوته تجعلنا لا نشعر بأي تهديد من الدخول في دوائر الحوار، فقد دخل الكتاب المقدس منذ العصور الأولى بوتقة الأختبار، ولا نغضب إن رأي وقال الآخرون عن نقاط ضعف فيما نؤمن به، ولا داعي من الخوف على أنفسهم، فليس لدينا أحكام تهدد حياتهم من واقع نصوص الوحي، كما ولا نجد من يطالب إخفاء بعض الحقائق حفاظًا على صورة الدين!!. فليس المهم أن تكون صورة الدين صحيحة عند الآخرين؟ الأهم أن تكون صحيحة في داخلي! فكيف أومن بعقيدة غير متيقن من صحتها!!؟
لذا لا نطالب نحن رجال الدين المسيحي بإرسال قوافل لتصحيح صورة الدين عندما يُعلن المجتهدون من غير المسيحيين نقدهم وآرئهم، بل نشكرهم إن تحدثوا بأدب ونذهب لندرس ونتحقق ونبحث فنؤمن ونشكر. فالإيمان لدينا ليس جزء من الميراث، والعبادة ليست فرض بل حب لله مبني على اقتناع ويقين. وكتب الله أطهر من أن يبرئها إنسان فكلمة الله تعلن عن نفسها "قارنين الروحيات بالروحيات" (1كو2: 13)، وإن أخطأ إنسان في حق الله فمن قبل الله يكون الجزاء "لي النقمه أنا أجازي يقول الرب" (رو12: 19، أش34: 8، 61: 2، عب 10: 30).
يخطئ من يعتقد أنه قادر على إعادة عجلة الزمن أو إيقافها، ويخطئ أكثر من لم يؤهل نفسه لاستيعاب الطفرات والمستجدات لمسايرة الثقافة العالمية بعدما أصبح العالم قرية صغيرة، ولا بد من التسليم بأن الحوار الراقي هو السبيل الوحيد للدخول ضمن الوكب الحضاري، ولا يوجد وسيلة أخرى لمواجهة الفكر إلا بالفكر، ومن أغلقت أمامه طاقة في النَايل سات والعرب سات وجميع النوافذ لم يعد من الصعب عليه إيجاد مئات الأبواب التي تُفتح أمامه، وما كان سوف يقوله هنا بتحفظ سوف يقوله هناك دون الحاجه لأدوات تجميل.
http://www.copts-united.com/article.php?A=8235&I=221