بقلم: د. فكري حسن
مصر والحبشة( إثيوبيا) قطران شقيقان منذ قديم الأزل يربطهما النيل الذي يفيض بالماء كل صيف عندما تهبط الأمطار علي هضبة الحبشة لتغذي نهر العطبرة والنيل الأزرق ـ أهم موارد النيل الإثيوبية, وبينما احتفل قدماء المصريين ببشائر الفيضان ووفاء النيل يحتفل أشقاؤنا في الحبشة بعيد الحصاد في سبتمبر الذي يوافق انتهاء موسم الإمطار الرئيسي( كرمت) والذي يستمر من يونيو إلي سبتمبر.
ويعتمد الأهالي في الحبشة علي هذه الأمطار كما تعتمد مصر علي مياه النيل في الزراعة وبينما كنت في هولندا حديثا للمشاركة في تدريس مقرر عن تاريخ المياه بالمعهد العالي للمياه التابع لليونسكو, لفتت نظري إحدي الطالبات وهي من إثيوبيا واسمها سلام إلي الاحتفال السنوي بالحصاد والأمطار وهو عيد ايريكا ويروي قصة هذا العيد أشهر شاعر إثيوبي ـ بلاتين جيتا تسيجي ـ وحسب روايته أن أسرا إله الشمس والسماء عند فراعنة كوش أنجب ولدا بكرا اسمه سيت كما أنجب ولدا أصغر اسمه اور كما أنجب بنتا اسمها ايزيس( أوأتيت أو ادبار). ولكن سيت قام بقتل شقيقة الأصغر, وقامت الأخت ايزيس بزرع شجرة جميز[ اودا] كتذكار لأخيها علي ضفاف النيل في مصر حيث قام الأخ بقتل أخيه.
كما طلبت إيزيس من أبيها( الشمس) أن يوطد أواصر السلام بين عائلتي سيت واور حتي يسود الأمان وتعود الأمطار التي كانت قد توقفت حزنا علي وفاة أور وأجابها أبوهما إلي طلبها وعادت الأمطار لتبارك أرض الحبشة وليفيض نهر النيل من جديد وبذلك ترعرت الشجرة التي زرعتها إيزيس, كما عاد أور من الموت إلي الحياة ولذلك يحتفل أهل الحبشة في سبتمبر بهطول الأمطار والأمن والسلام شاكرين الله علي عطاياه وتعبر أيريكا عن الاحتفال الذي يجتمع فيه الناس من كل مكان حول شجرة جميز ضخمة في منطقة دبرا زت ويقومون بالغناء والإنشاد وإقامة الصلوات, كما يقومون بتقديم الزهور والخضرة اعتقادا منهم بأن اللون الأخضر مقدس ويرمز للسلام وروح الاله. وفي معتقدات أهالي أورومو حيث يقام الاحتفال يمثل العيد عودة الحياة وبداية دورة الطبيعة من جديد. ومن الواضح أن هناك تطابقا بين هذه الرواية وقصة إيزيس وأوزوريس عند قدماء المصريين والتي رواها في عصر متأخر اليوناني بلوتارخ. وكان المصريون يحتفلون كل عام ببعث أوزوريس حيا من جديد بعد موته( أور في القصة الحبشية) وقد أغتاله أخوه سيت( تماما كما في الأسطورة الحبشية).
واشتملت احتفالاتهم علي مواكب ومناظر تمثيلية وأناشيد وأغان وابتهالات. وكانت الاحتفالات تقام بمنطقة صايس في غرب الدلتا ومنطقة ابيدوس(العرابة المدفونة في جرجا) وكان المصريون يترقبون بعث اوزوريس في شهر كيهك وهو الشهر الرابع من التقويم المصري القديم وهو أيضا التقويم القبطي.
ومن المعروف أن ايزيس وهي من أهم ربات مصر القديمة هي زوجة اوزوريس وشقيقة سيت وهي أم الاله حورس وكان كل ملك مصري خليفة لحورس علي الأرض وتجسيدا له. وقد امتدت عبادة ايزيس في عهد البطالمة والرومان إلي خارج مصر لتشمل بلاد حوض البحر الأبيض المتوسط ومابعدها لتمثل ربة الكون الرئيسية كما في النص أنا أم الطبيعة كلها وسيدة جميع العناصر, ومنشأ الزمن وأصله, والربة الأعلي,ملكة الأرواح, وأولي سكان السماء, والقدوة النموذجية لجميع الآلهة والربات
, أحكم ذروة السماء ونسمات البحر الطيبة وقد أطلقت علي إيزيس عدة مسميات كما في النص أنا القوة الوحيدة يعبدني العالم كله بأشكال مختلفة وبطقوس متنوعة فيسميني البعض خونو وآخرون بيلونا وغيرهم هيكاتي أو رامنوسيا أما شعوب المملكتين الإثيوبية والمصرية, ذوو الثقافة العريقة البالغة, فيبجلونني بعبادتي الحقيقية, ويسمونني باسمي الحقيقي وهو الملكة إيزيس. ويربط هذا النص بوضوح بين إثيوبيا ومصر, ومن المذهل أن تبجيل ايزيس رمز الوفاء والإخلاص والسلام والمحبة استمر عبر العصور في إثيوبيا حيث مازالوا يسمونها باسمها الحقيقي الملكة إيزيس ومازالوا يقرنونها بشجرة الجميز وهي شجرة إيزيس المقدسة, كما هي شجرة حتحور( وهي أيضا أم حورس)
ويدعونا احتفال ايريكا في إثيوبيا إلي استجلاء التراث المشترك بيننا وبين دول حوض النيل والتي تربطنا بها وشائج وصلات من عصور ماقبل التاريخ, ولعلنا نسعي إلي مشروع ثقافي يربط شعوب حوض النيل كمبادرة ضرورية لتكامل اقتصادي ولمصلحة شعوب كل الدول التي تباركها الأمطار التي يفيض بها النيل ليعيد إليها الحياة وليربطها في سلام دائم.
نقلا عن الاهرام
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=8026&I=216