نذير الماجد
بقلم: نذير الماجد
الوطن هو آخر ما تظفر به الشعوب في كدحها الطويل نحو الاستقرار والأمن والرخاء. فهو الحلم الجميل الذي يداعب كل فرد أو جماعة تعاني من احباط الهجر وقسوة المنفى في الأرض. كثيرة هي الجماعات التي بلا وطن، مثلما هي كثيرة تلك الأوطان التي تعاني من شح المواطنة، وأكثر منها هي تلك الأوطان المزورة الزائفة التي تصبح خيانتها هي الوطنية نفسها، فما هو هذا الوطن الذي تتصارع على حظوته كل الشعوب وكل الجماعات التي طحنتها لعنة التاريخ؟
الروائي مظاهر اللاجامي يشير بمرارة وهو يعض على الجرح إلى أن الوطن ليس سوى الذاكرة، أرض وتاريخ يساوي وطن، لكن تصورا آخر يضفي عليه بعدا هلاميا يتجاوز التاريخ ويقفز على المكان فيجعل منه هوية زئبقية متأرجحة متعالية على الأرض وحفنة التراب، الوطن هنا مشروط بالحرية، فحيثما يصبح المرء حرا يصبح مواطنا وحيثما يكون مستعبدا مقيدا يكون منفيا مأسورا داخل أسوار زنازين يسمونها أوطان!
الوطن الذي على هذه الشاكلة هو الذي يفخر الشاعر السوري محمد الماغوط بخيانته، لأن الوفاء للوطن الحقيقي يقتضي خيانة ذلك المزور الذي تعشش فيه الطغاة وتمرح فيه خفافيش الصمت وكهنة الليل، وإذن فالحرية عند الماغوط هي الحد الفاصل بين المزور والحقيقي من الأوطان، هكذا يقول وهو يزأر في وجوه المنهزمين والطغاة معا: "لا، هذه الأرض ليست أرضي وهذه البحار ليست بحاري وهذه الأعلام ليست أعلامي وهذه الحدود ليست حدودي.. ما هذا؟ المختبرات الفضائية تصل إلى الزهرة والمريخ وعطارد ونحن غارقون في: فلان سني، فلان شيعي، فلان درزي، فلان قبطي، فلان اسماعيلي.. فلان من هذه العشيرة وفلان من تلك القبيلة وهذا من ذلك الفخد وذاك من ذلك البطن، حتى لأشعر بأنني أنتمي إلى القوارض الخشبية والتجمعات الحشرية أكثر مما أنتمي لهذه الأمة... فنحن الوطنيين الوحدويين الوحيدين الأبرياء الذين لا فخذ لنا ولا بطن ولا رقبة ولا كاحل في هذه القبيلة أو تلك العشيرة ولا طائفة لنا إلا هذا الوطن من محيطه إلى خليجه.. ماذا نفعل؟ هل نحمل صغارنا بأسناننا كالقطط المطرودة من منازلنا وندور بهم من مكان إلى مكان أم ننصب لنا ولهم خياما وراء هذه الحدود أو تلك ونسأل الرائح والغادي عما يجري في أوطاننا ؟ لا، فهذه الأرض هي أرضي وهذه السماء هي سمائي وهذا التخلف هو تخلفي وهذه الأمة هي أمتي والدين ليس ايرانيا ولا ايطاليا وما من عربي أو أعجمي يمثل شعرة في رأسي بعد الآن إلا بالحرية. ولن أبالي".
بهذه الكلمات الساخرة التي تجيد قراءة الأوطان العربية المفتتة والمصابة بالتشرذم والتناحر الطائفي والتي هي وحدها القادرة على تعرية السخف والحمق الطائفي المقيت حيث تصبح الحرية مرتهنة للتاريخ والجغرافيا، يعيد الماغوط تشكيل مفهوم الوطن لكي يضم في بوتقة واحد كلا من الحرية والذاكرة، ليغدو أكثر التباسا واستعصاءً وأشد مثالية. ما يدعو إليه الماغوط هو الانتقال من الانتماءات القهرية والمتوارثة لكل ما هو طائفي أو قبلي أي كل الهويات البدائية التي تقوم على الدم والوراثة، إلى الانتماءات والهويات المكتسبة أو الوضعية التي ترتكز على مبدأ أساسي هو مبدأ الاختيار والتعاقد أو التوافق، فالصفة القهرية للاشتراك في الدم والوراثة كعامل تقوم على أساسه الهوية تتحول لتصبح سمة طوعية هي التي تتسم بها المواطنة، فلا يمكن بناء وطن بلا حرية كما لا يمكن بناء وطن بلا ذاكرة أو أرض: ثلاثة عناصر بدونها يصبح الوطن مزورا.
والعيد الوطني في وطن مزور ليس سوى عيد لاجترار الوهم ومخادعة الذات والضحك على الذقون! وحال المحتفلين به والراقصين على أعتابه دون الاندماج الكامل في حاضنة الوطن كحال من يحتفل بالتحرر قبل انعتاقه من أسر العبودية، إنه وهم له مذاق لذيذ ومخدر يساعد على تجميل القبيح لكي يعاد انتاجه وتأبيده. إن الاخلاص الوطني شيء مختلف تماما عن مجرد تسمية يوم للاحتفال بالعيد الوطني لكي ترفع فيه الأعلام وترتل الأناشيد والأهازيج الوطنية.
السؤال الأهم الذي يجب أن يطرح قبل التفكير بإقامة العيد الوطني هو فيما إذا كان ممكنا إحياء عيد وطني في ظل غياب أي صيغة للشراكة الوطني الحقيقية القادرة على بناء حاضنة تستوعب الأفراد والجماعات، ما يجب التفكير به ليس فيما إذا كان من الضروري الاحتفال بالعيد الوطني أم لا، لأن ذلك سيغدو مجرد سجال عبثي سقيم إذا لم تسبقه إرادة سياسية جادة تسعى إلى تجاوز كل ما من شأنه أن يحدث التصدعات أو الشروخ في لحمة الوطن، هذه الخطوة ضرورية جدا خاصة في تلك الكيانات السياسية التي تضم جماعات متفاوتة تطمح في تمثيل ذاتها في أي بناء مزمع للجسد الوطني، فالمشاركة السياسية كما لا يخفى هو الشرط الأساسي لكي يكون المواطن مواطنا، وبذلك أيضا نستطيع أن نميز بين مفهوم الرعية وبين مفهوم المواطنة، الرعية تحتاج إلى راع يقودها نحو العشب أو المسلخ ولكن المواطن هو من يتحمل مسؤوليته الكاملة في اختيار حاضره ومستقبله عبر المشاركة السياسية. والحرية التي هي في "التصور الرعوي" مجرد كماليات وترف ستحتل الصدارة بين جملة حقوق المواطن بوصفه ذلك الشخص ذو الصفة السياسية، المساهم في بلورة واقعه السياسي، والمطالب بترجيح الولاء للوطن على سائر الولاءات، فالمواطنة في الأساس هي تلك العلاقة القائمة على الحقوق والواجبات، يأتي في مقدمتها حق الحرية بكل تفرعاته من حق التعبير إلى حرية الانتماء الحزبي والمعارضة السياسية وواجب المشاركة السياسية.
تتخذ هذه التحديدات أهمية مضاعفة في بلد كالسعودية التي احتفلت قبل أيام بعيدها الوطني، ففي هذا البلد يختزل الوطن ليصبح محتكرا في النظام السياسي القائم وبالتالي تصبح المواطنة هي التملق ومجاملة السلطة والانقياد الأعمى لسياساتها، إنها في هذا البلد لا تحتمل أي ممارسة نقدية بإمكانها أن تتيح تعددية سياسية وثقافية، ولأن السلطة والوطن هما شيئا واحدا فإن كل خروج عن أهواء السلطة سيمثل انشقاقا أو نزوعا انفصاليا أو خيانة عظمى. المشاركة في الحياة السياسية تعني احتمال وجود معارضة، وبما أن المشروعية الوطنية قد تم ربطها بالنظام القائم وحده فالنتيجة هي ضرورة إلغاء أو تأجيل -في الحد الأدنى- كل رغبة تتطلع إلى تأسيس حياة سياسية يسودها مناخ تعددي، وبالتالي فإن حق الحرية يجب أن يهمش أو يشوه ليكون مجرد مطلب غوغائي ولكن يجب أن يكون ذلك في موازاة الإعلاء من شأن مطالب أولية يوفرها كل كيان سياسي مهما كان بدائيا كالحق في الحياة أو الأمن أو التعليم أو حتى الغذاء، هذه الحقوق الأولية هي التي يتم التسويق من خلالها لمفهوم الوطن والمواطنة، كأن الحرية أقل شأنا من الرغيف، هذا المفهوم المبتسر للمواطنة أنتج وعيا زائفا ومواطنا مشيئا ومشوها يعاني من غربة في الوطن: "الأرض والذاكرة" واغتراب على مستوى الذات ليرقص على أنغام القيود التي يكبل بها في اليوم ألف مرة: "غياب الحرية" ولذلك لا نستغرب تكريس المظاهر والقشريات والهموم الهامشية في النقاشات الوطنية واهمال كل ما هو جوهري ومفصلي وحاسم، فعوض أن تتم مناقشة مفاهيم كالوطنية والمشاركة السياسية وادماج الجماعات المهمشة يتم التركيز حول العيد الوطني والجدل فيما إذا كان جائزا أم مبتدعا.
وإذا كان من السهل استدراج العقل السلفي المعروف بتحالفه التاريخي مع السلطة لخوض هذه المماحكات العبثية فإن المدهش فعلا هو تورط بعض المثقفين الوطنيين والمستقلين في سجالات ومعارك وهمية لا تقل سطحية وقشرية كتلك المطالب الليبرالية الجزئية دون الولوج إلى مطلب أساسي كمطلب الحرية والتعددية السياسية. لكن الأدهى من ذلك هو محاولة تزييف الواقع من خلال حجب المتسبب الحقيقي في اعاقة تحقيق هذه المطالب المشروعة، باعتبار أن المتسبب الحقيقي هو العقل السلفي أو المجتمع نفسه، ومع أن العلاقة بين المجتمع والسلطة السياسية علاقة جدلية حيث ينتج أحدهما الآخر ويساهم في تعزيزه وتكريسه إلا أن ذلك لا يعني وجود رغبات سياسية تمنع أو تفرض ما تشاء من خيارات ثم ترغم كل الأطراف المتصارعة على قبولها بشكل أو بآخر.
السلطة قادرة على فرض الاصلاح شريطة أن تتوفر الارادة السياسية الأمر الذي يتعامى عنه المبشرون بالمواطنة "الرعوية"، فرغم الممانعة السلفية التي أسفرت أخيرا عن وجهها العنيف في هيئة رد فعل غوغائي، أقرت الحكومة السعودية الاحتقال بذكرى اليوم الوطني الذي أعلن فيه عن قيام وتوحيد المملكة التي لازلت تعتمد الملكية المطلقة نظاما للحكم، هذا العام صادف الاحتفال بالعيد الوطني رابع أيام العيد، حدثت مناوشات وأعمال تخريبية في مدينة الخبر-شرق المملكة، سبقتها حملة اعلامية سلفية واسعة تستهدف الوقوف في وجه المحرمات والمحظورات الأخلاقية التي قد ترافق الاحتفالات المزمعة، ورغم توقعها لمثل هذه الممانعة أصرت الجهات السياسية على المضي قدما في تثبيت العيد الوطني كأمر واقع، وهو الأمر الذي لم يكن ليتم لولا توفر الارادة السياسية التي انحسرت وانكفأت أمام ملفات أكثر أهمية كالمطالب الاصلاحية والحقوق السياسية والحريات الاجتماعية وأوضاع المرأة، هذا فضلا عن أوضاع الجماعات المهمشة والمضطهدة والتي كان يجب أن تشكل جزءا أساسيا في الخارطة الوطنية، وهو ملف شائك يمثل تحديا مفصليا في طريق بناء المواطنة القائمة على أساس الثقة المتبادلة بين كافة الأفرقاء، ولأن السعودية بلد مكون من هجين متعدد اثنيا ودينيا وآيديولوجيا، فإن أي خطاب وطني يجب أن يعكس بأمانة وصدق هذا التنوع والتعدد، فالانتقال من الكيان السياسي القائم على أساس الطائفة أو القبيلة نحو بناء مشروع دولة بوسعها أن تحتضن وطن يسع الجميع مشروط ببناء ثقافة وطنية تسع جميع الثقافات وتشييد مواطنة تسع جميع الأفراد وهو الشيء الوحيد الذي يجعل من اليوم الوطني عيدا حقيقيا وليس مجرد رقص على أنغام الاستعباد!
http://www.copts-united.com/article.php?A=7927&I=214