تقدم السحلفاة

بقلم: مصطفى الطويل

نحن،‮ ‬ما لم نكن قد تخلفنا كثيراً‮ ‬جداً‮ ‬جداً‮ ‬عن ركب الحضارة والتقدم،‮ ‬فعلي أكثر تقدير،‮ ‬فإن تقدمنا في بعض مناحي الحياة،‮ ‬هو تماماً‮ ‬أشبه بتقدم السحلفاة علي طريق الألف ميل،‮ ‬كما قال الزعيم الصيني ماوتسي تونج،‮ ‬الذي بالفعل قطع مشوار التقدم ذات الألف ميل،‮ ‬وأصبحت الصين الآن هي الغازية للعالم كله بإنتاجها بما فيه أمريكا وأوروبا‮.‬
أقول هذا بمناسبة أنني كنت في جولة خليجية،‮ ‬التي‮ ‬غبت عنها ما يقرب من ثلاثين عاماً‮ ‬باستثناء المملكة السعودية التي أزورها دوماً‮ ‬لقضاء الفرائض،‮ ‬فمنذ ثلاثين عاماً‮ ‬لم أزر‮ ‬كلاً‮ ‬من الكويت وقطر ودبي،‮ ‬وقد زرتها جميعاً‮ ‬من فترة وجيزة،‮ ‬فوجدت تقدماً‮ ‬كبيراً‮ ‬جداً‮ ‬تم إحرازه في كل شيء،‮ ‬الطرق الممتدة الواسعة،‮ ‬المباني الشاهقة والمنتسقة والجميلة،‮ ‬النظافة في كل مكان،‮ ‬الأشجار والورود تملأ الشوارع،‮ ‬احترام قوانين المرور،‮ ‬آداب التعامل بين الناس،‮ ‬لا تزاحم ولا تشاجر ولا صياح ولا قذارة،‮ ‬صحيح هناك زحام كثير للسيارات،‮ ‬خاصة وقت الذروة،‮ ‬ولكن هذا لأن جميع الناس هناك مستواهم المادي مرتفع ويسمح بشراء السيارات،‮ ‬خاصة أن السيارات المستعملة قيمتها ضئيلة جداً‮ ‬تسمح لأي عامل بشرائها بسهولة،‮ ‬ومن هنا،‮ ‬كان الزحام شديداً‮ ‬للسيارات لأنه ليس هناك أحد يترجل،‮ ‬إلي حد أن امارة دبي أصدرت قراراً‮ ‬بمنع تجديد ترخيص أي سيارة مضي علي إنتاجها أكثر من عشرين عاماً،‮ ‬أملاً‮ ‬في الحد من عدد السيارات التي تملأ الشوارع،‮ ‬ولكن ليس في هذه البلاد مشكلة لانتظار السيارات،‮ ‬لأن الجراجات وأماكن الانتظار متوفرة في كل مكان‮.‬
ويا ليت التقدم الذي شاهدته كان مقصوراً‮ ‬علي الشوارع والمباني والنظافة والنظام،‮ ‬ولكن الأهم من ذلك،‮ ‬أن هناك تقدماً‮ ‬إنسانياً‮ ‬واجتماعياً‮ ‬قفز قفزة كبيرة،‮ ‬فهناك حقوق للمرأة وهناك ديمقراطية لا بأس بها خاصة نزاهة الانتخابات،‮ ‬الحرية مكفولة لأغلب المقيمين خاصة المواطنين منهم،‮ ‬فالتقدم الذي لاحظته عن فترة الثلاثين عاماً‮ ‬الماضية شاملاً‮ ‬لكل شيء وأصبحت هذه الدولة أشبه بالدول الأوروبية من نواح عديدة،‮ ‬ولولا حرارة الجو،‮ ‬لكانت هذه الدول أفضل بكثير من الدول الأوروبية وبالمقارنة عن تقدمنا نحن في الثلاثين أو الأربعين عاماً‮ ‬الماضية،‮ ‬فنحن نتقدم بالفعل،‮ ‬ولكن تقدمنا هذا أشبه بتقدم السلحفاة،‮ ‬مقارنة بتقدم دول الخليج،‮ ‬صحيح أن الله سبحانه وتعالي أنعم عليهم بثروة طائلة نتيجة عائد البترول المرتفع،‮ ‬ولكن هناك أموراً‮ ‬تم التقدم فيها لا شأن لها بالثراء،‮ ‬وعلي سبيل المثال،‮ ‬فهناك النظافة،‮ ‬والنظام،‮ ‬وآداب التعامل مع الناس،‮ ‬التقدم الديمقراطي المهول،‮ ‬حقوق الإنسان مكفولة،‮ ‬كل هذه الأمور وغيرها لا شأن لها علي الإطلاق بالثراء،‮ ‬فهذا التقدم الشامل الكامل عائد إلي القدوة الحسنة وحب أولي الأمر في هذه البلاد لشعوبهم وأوطانهم‮.‬
أما نحن فلا أحد يهتم بشئون البلاد ومستقبل الشعب،‮ ‬ولكن الاهتمام الأول والأخير لأغلب العاملين في الدولة،‮ ‬هو الحفاظ علي الكرسي وكيف يستمر فيه لأطول مدة ممكنة،‮ ‬لقد تخلفنا كثيراً‮ ‬عن دول كنا نحن الذين نعلم أبناءها ونمد يد المساعدة لها،‮ ‬ولكن مع الأسف الشديد،‮ ‬بلانا الله بعهد الظلام الأسود،‮ ‬الذي أضاعة كل ثرواتنا هباءً،‮ ‬طمعاً‮ ‬في زعامة زائفة وقومية وهمية،‮ ‬ودخلنا في العديد من الحروب والثورات التي ابتلعت أموالنا وثرواتنا،‮ ‬وها نحن،‮ ‬تزايدت ديوننا وأصبحنا مدينين لأغلب دول العالم بعد أن كنا دائنين لهم،‮ ‬ويا ليت البلاء كان مقصوراً‮ ‬علي ضياع ثرواتنا وأموالنا،‮ ‬ولكن الأهم،‮ ‬أن ضاعت أخلاقنا،‮ ‬وفسدت ذمتنا،‮ ‬وأصبح الفساد شاملاً‮ ‬لكل شيء،‮ ‬وانعدم الضمير،‮ ‬وأصبح أغلبنا يعمل بالمقولة السائدة‮: ‬أنا ومن بعدي الطوفان‮.‬
هذه هي الحقيقة أغلب دول العالم سواء أكانت‮ ‬غنية بثرواتها أم فقيرة مادية،‮ ‬إلا أن التقدم أصبح شاملاً‮ ‬كاملاً‮ ‬لا يفرق بين الغني والفقير،‮ ‬فها هي الهند التي كانت من أفقر دول العالم وها هي ماليزيا التي كانت هي الأخري من أشد دول العالم فقراً،‮ ‬وكذا أغلب دول آسيا وجنوب أمريكا،‮ ‬كل هذه الدول كانت فقيرة جداً،‮ ‬ورغم هذا الفقر،‮ ‬استطاعت بسواعد أبنائها وإيمان قاداتها بشعوبهم ووطنهم،أن يقفزوا إلي الصفوف الأولي من بلاد العالم،‮ ‬أما نحن فإن لم نكن نتقهقر،‮ ‬فإننا نتقدم تقدم السحلفاة‮.‬

نقلا عن جريدة الوفد

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع