منذ أن دخلت جماعة الإخوان المسلمين ساحة العمل السياسى من البوابة الانتخابية عام ١٩٨٤ ثم بعدها عام ١٩٨٧ فى انتخابات مجلس الشعب وهى تتبنى - سواء بصورة مباشرة وعلنية أو غير مباشرة مستترة - أن الإسلام هو الحل وأن السبيل لتحقيق هذا إنما هو تطبيق الشريعة الإسلامية. إلا أنه فى الحقيقة لم يكن خلال هذه السنوات الطويلة كل خطاب القيادات الإخوانية واحداً فيما يخص تطبيق الشريعة الإسلامية، فمنهم من كان يصر على التطبيق الفورى لها واعتبارها البرنامج السياسى الرئيسى للجماعة، ومنهم من كان يوسع اجتهاده لكى يطرح الالتزام بمبادئ الشريعة ومقاصدها العامة كإطار للتشريع فى البلاد دون الدخول فى تفاصيلها وأحكامها العديدة المختلفة فيما بينها.
وبعد ثورة يناير والظهور المفاجئ الكبير للحركات السلفية بمختلف أنواعها وتمكنها مع جماعة الإخوان المسلمين من تحقيق الأغلبية فى مجلسى الشعب والشورى ثم انتصار الدكتور محمد مرسى فى انتخابات رئاسة الجمهورية، شعر كثير من المنتمين للتيار الإسلامى بأن وقت تطبيق الشريعة الإسلامية قد حان وأن هناك مساندة شعبية واسعة لذلك، استنتجوها من الأغلبية الانتخابية التى حصلوا عليها. وبهذا التطور شهد المجتمع المصرى تصاعد نداءات تطبيق الشريعة من جانب كل هذه الأطراف الإسلامية، وإن أخذ كل منها - كالعادة - منحى متميزاً عن الآخر، وبدأت بعض الخلافات تظهر فيما بينهم حول مضامين هذا التطبيق والطريقة التى يتم بها. وقد انعكس جزء من هذا الخلاف بداخل مجلس الشعب المنحل، حيث عرفت لجانه مناقشات ساخنة حول بعض المشروعات والاقتراحات المقدمة من أعضائه بشأن تطبيق الشريعة، وبدا واضحاً أن هناك ثمة خلافات مهمة بين الإخوان المسلمين ومعظم الأجنحة السلفية حول توقيت تطبيق بعض أحكام الشريعة وليس حول مضامين هذا التطبيق.
وترى وجهة النظر الإخوانية أن الوقت الراهن والظروف الحالية فى مصر لا تسمح بالتطبيق الفورى لأحكام الشريعة الإسلامية، ذلك بالإضافة للأوضاع الدولية والإقليمية المحيطة بنا. ومن هنا فإن كل هذا يستلزم - حسب الرؤية الإخوانية - «التدرج» فى تطبيق الشريعة، والانتظار حتى تتهيأ الظروف الداخلية والخارجية ويضحى المجتمع متقبلاً لتطبيقها بصورة كاملة، وهو ما يستلزم بدوره عملاً سياسياً ودعوياً وإعلامياً كثيفاً حتى يصل المجتمع إلى هذه الدرجة من الاستعداد لتطبيق الشريعة كاملة. واستند عديد من الإخوان فى وجهة نظرهم هذه على الخبرة النبوية فى تطبيق بعض الأحكام، ومنها حكم شاربى الخمر والتدرج الذى تم فيه، وأيضاً على بعض خبرات الخلفاء الراشدين وفى مقدمتهم عمر بن الخطاب فى إيقافه حد السرقة فى عام الرمادة.
أما معظم السلفيين فلم يكن هذا التدرج بالنسبة لهم معقولاً ولا مقبولاً، فبالنسبة لهم كان هذا منهجاً أملاه الله، سبحانه وتعالى، على رسوله، صلى الله عليه وسلم، دون غيره من خلال الوحى القرآنى، وهو ما لا يمكن أن يكون لغيره، خاصة أن الدين قد اكتمل والشريعة قد أصبحت واجبة التطبيق دون تدرج أو إبطاء حسب الآية الكريمة «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام ديناً». ويرى أصحاب هذه الوجهة من أغلبية السلفيين أن تطبيق الشريعة بكل أحكامها فى الوقت الحالى فى مصر بكل أوضاعها المرتبكة والمعقدة، هو الكفيل وحده بتهيئة الناس لتحسينها وضبط سلوكياتها وتقنين العلاقات القائمة بينهم على الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وأنه دون هذا التطبيق الفورى سيظل المجتمع فى حالته السلبية الراهنة ولن يمكن إصلاحه بالتدرج الذى يدعو إليه بعض الإخوان المسلمين حتى يتم بعده تطبيق الشريعة.
ولما أتى وقت الحوار حول نصوص الدستور بدا الموقفان واضحين فى تمايزهما، وإن بدا أيضاً واضحاً أن هناك ثمة ما يجمع بينهما. بدا التمايز فى الإصرار السلفى حتى اللحظة على أن يرد مصطلح أحكام الشريعة فى عدد من مواد الدستور بما لا يسمح بمخالفتها فى تشريع القوانين عموماً أو فى بعض المواقف تجاه بعض القضايا وبخاصة قضية المساواة فى الحقوق بين الرجل والمرأة. بينما بدا موقف الإخوان تجاه هذا الإصرار السلفى مائعاً وغير محدد ومتراوحاً بين الصمت والموافقة عليه وأحياناً الحديث عن ضرورة التدرج فى تطبيق الأحكام وعدم الشروع الفورى فيه.
وعلى الرغم من أنه فى المراحل الأولى لصياغة مسودة الدستور لم يختلف الطرفان على نص المادة الثانية باعتبار أن مبادئ الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع، فإنهما اختلفا فى المرحلة الأخيرة الحالية، حيث رأى السلفيون أن عدم الموافقة على إيراد شرط عدم مخالفة أحكام الشريعة فى بعض المواد الأخرى من الدستور يلزمهم بأن تكون الشريعة أو أحكام الشريعة هى المصدر الرئيسى للتشريع فى المادة الثانية الحاكمة دون حاجة لورود أى نص بشأنها فى المواد الأخرى من الدستور.
وظل الإخوان ثابتين على موقفهم فى مرحلة الخلاف هذه على رأيهم فى بقاء المادة الثانية على حالها، بينما تفرقوا فيما يخص إيراد نص عدم مخالفة أحكام الشريعة فى بعض المواد الأخرى، وصدرت بعض التصريحات من بعض قادتهم بتأييد ذلك، بينما رأى آخرون أن مطلب تطبيق أحكام الشريعة هو مطلب الشعب المصرى ولابد من تحقيقه فوراً أو فى المستقبل غير البعيد.
والحقيقة أن الأكثر تعقلاً وحكمة ومنطقية هو أن يكتفى الجميع بأن تظل مبادئ الشريعة الإسلامية كالمصدر الرئيسى للتشريع فى البلاد هى النص الحاكم فى المادة الثانية، على أن يكون من حق أى حزب أو قوة سياسية إسلامية تحصل على أغلبية منتخبة فى البرلمان أو منصب الرئاسة - على أساس برنامج يتضمن تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية - أن تقوم فوراً وقتها بتطبيق ما وافقها عليه الناخبون وتعهدت أمامهم بتطبيقه. ويوفر نص المادة الثانية بصورته هذه أساساً مناسباً لهذا التطبيق إذا انتخب المصريون أغلبية إسلامية تسعى له، كما أنه يوفر أساساً مناسباً للالتزام بالمبادئ العامة للشريعة إذا ما حصلت على الأغلبية أحزاب غير إسلامية لا تضع تطبيق الشريعة فى برنامجها الانتخابى.
وفى غير هاتين الحالتين، فإن المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية فوراً من جانب بعض القوى الإسلامية لا يمكن النظر إليها إلا باعتبارها «مزايدة» سياسية وسعياً إلى استقطاب الجماهير المصرية المتدينة بطبعها نحو تأييد هذه القوى فى المعارك الانتخابية، وليست محاولة جدية لتطبيق هذه الشريعة. فإذا أراد هؤلاء، من السلفيين وبعض الإخوان، أن يطبقوا الشريعة فوراً، فعليهم عدم الاكتفاء بالحديث عن هذا فى الندوات والمؤتمرات والبرامج التليفزيونية، بل عليهم التوجه فوراً إلى رئيس البلاد وإلى مجلس الشورى، والأول إخوانى إسلامى والثانى به أغلبية إسلامية كبيرة، لمطالبتهما بالتطبيق الفورى لأحكام الشريعة.
والرئيس ومجلس الشورى منتخبان بصورة ديمقراطية حصلا فيها على الأغلبية التى توفر لكل منهما غطاء شعبياً لتطبيق الشريعة فوراً إذا ما أرادا. فإذا كان الرئيس ومجلس الشورى مقتنعين بهذا المطلب فعليهما الشروع فوراً فى إصدار القوانين التى تنظم تطبيق أحكام الشريعة، ويرون عندها كيف سيستقبل المصريون هذه الخطوة.
وإذا لم يتم هذا الأمر فى ظل الأغلبية الانتخابية للرئيس ومجلس الشورى، فليس أمامنا سوى مطالبة الإخوان والسلفيين بموقف أكثر وضوحاً وتفصيلاً فيما يخص قضية تطبيق الشريعة الإسلامية، سواء من حيث الطريقة أو المضامين التى يمكن أن يتضمنها هذا التطبيق، وكيفية حل الخلافات الفقهية الهائلة فيما يخص أحكامها وعلاقة التطبيق بأوضاع المجتمع الحالية وما تعهدت به مصر من مواثيق ومعاهدات دولية.
وإذا لم يقم الرئيس ومجلس الشورى بالتطبيق الفورى لأحكام الشريعة، فليتوقف كل المطالبين به عن الحديث عنه وعن المزايدة على الآخرين به، ولنعد جميعاً إلى نص المادة الثانية من الدستور كما هى دون أى تعديل أو تغيير.
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=73728&I=1330