أحمد عرفه الجزية بفهمنا التقلدي لها تحمل إكراه للدين 2-3

محمد زيان

* ليس في القرآن نص يأمر بقتال غير المؤمنين بالقرآن... والمفسرون أساءوا فهم نصوص القتال فطبقت خطأ.
* آية القتال الواردة في القرآن تقصد بنى قريظة فقط... إنها كلام عن أمر سلف وليست تأسيساً لأمر مستقبليّ.
* المقصود بالجزية أن تُنيلَ الآخرَ من الخير مثلما صدر منه تجاهك، أو تُنزِل به من الشر مثلما صدر منه تجاهك.
* لو كان الله يقصد كل أهل الكتاب لقال: "قاتلوا الذين أوتوا الكتاب فإنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرم الله".

أجرى الحوار: محمد زيان – خاص الأقباط متحدون
نحاور اليوم صاحب رسالة الماجستير التي كتب عنها المفتي تقريراً من 11 صفحة قال فيه إن الرسالة وما جاء فيها تخالف الثوابت العقيدية وما جاء في الكتاب والسنة، دخلت الرسالة وصاحبها في صراع مع الجمود حتى كُتب لها التصديق والإعتماد، إلا أن هناك جزءاً هاماً منها يتعلق بالجزية ومفهومها وظروفها وموقف أهل الكتاب خصوصاً وأن هذه النصوص لا تزال تلاحقهم حتى الآن كوصمة عار في جبينهم ولا يزال من الكتاب والدعاة وعلماء الإسلام الكثيرين الذين يقولون بأن أهل الكتاب لا بد وأن يدفعوا الجزية لأنهم أهل ذمة فما هي الجزية؟ وهل هي ظرفية أم عامة لكل العصور؟، وهل طلب القرآن قتال أهل الكتاب حتى يتحولوا إلى الإسلام؟، والمعنى الحقيقى للجزية في ضوء رسالة الماجيستير والشواهد التي تؤيد ذلك؟، أسئلة كثيرة طرحناها على الأستاذ أحمد عرفة صاحب رسالة الماجيستير التي خملت عنوان :"ألفاظ العبادات في القرآن الكريم" الر سالة التي أقلقت الأزهر والأزاهرة والتي تقلب المعلوم عند الجميع عن ألفاظ الصلاة والصيام والحج وغيرها فإلى التفاصيل...


** وكيف نفهم قول القرآن في آية الجزية (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ)؟

لا يمكن أن يكون المعنى قاتلوا عامة الناس من أهل الكتاب بسبب انتسابهم إلى دين غير دينكم، لأن هذا الفهم يخالف التوجيهات القرآنية الصريحة في مسألة الحرب والسلم: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) البقرة 190، ويقول (فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) البقرة 194. ولما كان القتال المأمور به في نص الجزية، قتالاً لفئة من الذين أوتوا الكتاب وليس قتالاً لعامتهم، وكانت تلك الفئة قد وصفت بأربع صفات، وجب أن تكون هذه الصفاتُ بمثابة حيثياتٍ لجريمة ارتكبوها في حق المؤمنين، ثم امتنعوا عن الخضوع للجزاء الذي يستحقونه، فوجب قتالهم كي يخضعوا له. أي إنها حيثيات للتحريض على القتال في واقعة معينة، وليست تقنينا للعلاقة مع أهل الكتاب أو فئة منهم، إنها كلام عن أمر سلف ينبغي أن يواجه بالقتال، وليس تأسيساً لأمر مستقبليّ.

 **ولكن النص يبدو مشبعاً بالعلة الدينية، فهو يعلل الأمر بقتالهم بأنهم (لا يؤمنون) فكيف تقول أنت إن الجزية لا علاقة لها بالعقيدة الدينية؟ وكيف يكون قول القرآن (لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ) حيثيات لا صلة لها بالعقيدة الدينية؟

* الإيمان في هذا النص ليس معناه التصديق، وإنما معناه يعطون الأمن بمعنى لا يعتدون ولا يعينون المعتدي، فالفعل (أمن) معناه وجد الأمن، والفعل (آمن) معناه: منح غيره الأمن، وليس معناه صدّق بفكرة دينية معينة. وكان منح الأمن في العهود القديمة أهم وأخطر أمر في حياة الناس، وكانوا يوثقون عهود الأمن، بأعظم ما يجلونه فيوثقونه تارة بالله وتارة باليوم الآخر وتارة بكتاب الله وتارة برسل الله أو بواحد من رسله. والقرآن هنا يتكلم عن بني قريظة، فيقول إنهم (لا يؤمنون بالله) أي يعاهدونكم على الأمن ويوثقون عهدهم بالله وباليوم الآخر، ثم لا يكون أمن من جهتهم، وإنما يكون الغدر. وهذا معنى قوله (وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ) أي ولا يلتزمون بعهودهم إلتزاماً حقيقياً، وإنما يخدعونكم ويتحينون الفرصة للغدر بكم، فالدين هنا معناه القانون الذي يخضع الإنسان له، وليس العقيدة الدينية، وقد وردت كلمة الدين بهذا المعنى في قول القرآن عن يوسف (كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) يوسف 76 . أما قوله (وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) فالمعنى ولا يحرمون ما حرّم الله ورسوله من الغش والخديعة والخيانة والغدر.

 ** فلنطرح سؤالاً متعلقاً برؤية عامة المفسرين لهذه الآية، هل سلّموا بأن أهل الكتاب لا يؤمنون بالله واليوم الآخر؟

* هذا سؤال مهم، فنفي الإيمان بالله واليوم الآخر عمن أمر النص بقتالهم، جعل فريقاً من المفسرين يتساءل هل أهل الكتاب يؤمنون بالله واليوم الآخر أم لا يؤمنون؟ وهم هنا يطرحون هذا السؤال قاصدين بكلمة (الإيمان) المعنى الديني، أي التصديق الجازم بفكرة دينية معينة، والشيخ ابن عاشور يقول: "ولم يُعرف أهل الكتاب بأنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر. فاليهود والنصارى مُثبتون لوجود الله تعالى، ومؤمنون بيوم الجزاء". وبهذا تحيَّر المفسرون في تفسير هذه الآية، فلذلك تأوَّلوها بأن اليهود والنصارى، وإن أثبتوا وجود الله واليوم الآخر، فقد وصفوا اللهَ بصفات تنافي الإلهية فكأنهم ما آمنوا به، وناقش هذه المسألة مفسرون آخرون منهم الرازي والسمعاني والشيخ محمد رشيد رضا.

** وماذا قال محمد رشيد رضا في هذه المسألة؟

قال رشيد رضا إن الكفر مستكنًّ في كتابهم المقدس، فقال: "وليس في التوراة التي بين أيدي اليهود والنصارى بيانٌ صريح للبعث والجزاء بعد الموت، وإنما فيها وفي مزامير داود إشاراتٌ غيرُ صريحة.

** وما رأيك في هذا الكلام من الشيخ رشيد رضا؟

* في العهد الجديد محاورة يردُّ فيها عيسى على الصدوقيين الذين كانوا يشككون في القيامة، مستدلين بأن التسليم بالقيامة ينتج عنه أن تصير المرأة في الآخرة زوجة لأكثر من رجل، إذا كانت امرأةً صالحة وتزوجت في الدنيا عدة إخوة صالحين، واحداً بعد الآخر، كي تقيم نسلاً لزوجها الأول، حسب شريعة العهد القديم، وكان رد عيسى عليهم بأن الناس في الآخرة تكون كملائكة السماء، ولا يتزوجون، وبأن الله عرّف نفسه بأنه إلهُ إبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوب، فلو كان إبراهيمُ وإسحاقُ ويعقوبُ أمواتاً لا يبعثون لما جاز لله أن يقول للحي وهو يدعوه إلى إتخاذه إلهاً: أنا إله إبراهيم، لأنه يكون في معنى أنا إله الموتى الذين لا يبعثون وتثبت هذه المحاورة أن الشكَ في القيامة أو إنكارَها لم يكن فكرة مستقرة بين جموع اليهود في عهد عيسى عليه السلام، وأن أصحابها كانوا في مرحلة الكفاح الفكري. ومما يؤكد هذا، أن الذين كانوا ينكرون القيامة ليس عامة اليهود وإنما فئة منهم يقال لهم (الصدوقيون). وبناءً عليه فلا يجوز القول بأن عامة أهل الكتاب لا يصدِّقون بيوم القيامة، كما يُفهم من كلام محمد رشيد الذي سبق إيراده.

بل يثبت القرآن في عدة مواضع أنهم يصدقون بوجود إله عظيم منعم يحاسب الناس ويجب تقديم طاعته على طاعة كل أحد آخر، كما يثبت أنهم يصدقون باليوم الآخر.


** دعنا نطرح الموضوع من أقرب نقطة ممكنة إلى جوهره وروحه، في رأيك هل يأمر القرآن أتباعه أن يعاملوا الناس على حسب ما يصدر منهم من سلوك أم على حسب ما يستقر في قلوبهم من عقائد دينية؟ لأنه إذا كان يأمرنا أن نعامل الناس على حسب عقائدهم فمن الممكن أن يأمرنا بقتال جماعة لأن عقيدتهم تخالف عقيدتنا؟

* إن العقيدة الدينية في كل دين- هي مجموع التصورات الذهنية عن مصدر الدين وماهيته وغايته- ينبغي ألا يُنظر إليها إلا باعتبارها دستوراً أخلاقياً، يُتوقَّعُ أن تتناغم سلوكيات المرء معه حين يعلن أنه يقبله، ولكنه لا يُهدر السلوك الطيب حين يصدر عمن لم يقبل هذا الدستور، كما أنه لا يجعل للسلوك الطيب حين يصدر عمن رضيه وزناً أكبر من وزنه حين يصدر عن الآخر الذي لم يقبله. إنها أشبه باتفاق النوايا في لغة السياسيين. ومن جهة أخرى فإن أهم ما في هذا الدستور- أعني برنامج العقيدة الدينية- أن يعترف الإنسان أن للكون إلهاً خالقاً منعماً هادياً، وأنه سوف يبعثه حياً بعد موته، ليحاسبه حساباً عادلاً، على كل ما عمل من خير وشر.... وكل ما عدا ذلك فإنه من المكملات أو الوسائل، بما في ذلك الكتب والرسل والملائكة. ولو أمر أي دين من الأديان أتباعه أن يقاتلوا من يخالفهم في الدين، لكان هذا التصرف في حد ذاته دليلاً على أنه دين باطل، وأن مصدره إنسان شرير يريد السيطرة والإستعلاء على أخيه الإنسان، وليس مصدره الإله الذي يرشد عباده إلى الخير، ويريد أن يجد الشرير منهم قدوة صالحة يمكن أن يتأسى بها فيكف عن الشر، ويريد من الناس أن يتنافسوا في عمل الخير، لا أن يتنافسوا في القدرة على إيذاء بعضهم بعضاً، من أجل هذا كله فإنه يقول لهم إنني سوف أحاسبكم جميعا، في يوم حددته للحساب، وسوف أحاسبكم على كل خير أو شر مهما كان صغيراً، وسوف أكافئ المحسنين بالخير على قدر إحسانهم، وأعاقب المسيئين بعذاب على قدر إساءتهم.

 ** وهل توجد شواهد في القرآن تؤكد أن تعاملنا مع الناس يجب أن يكون على حسب أعمالهم وليس على حسب أديانهم؟

* لقد عاب القرآن على جماعة من اليهود أنهم يظلمون غير اليهودي ويقولون (لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) آل عمران 75، وسبب قتال المشركين الذين لا شك في أن أهل الكتاب أقربُ منهم إلى الله وكتابه، وإلى الرسول والذين اتبعوه- ليس هو تصوراتِهم الدينية، ولا طقوسَهم الدينية، ولا منهجَ التحليل والتحريم الذي يسلكون في حياتهم وفقاً له، وإنما هو نقضُهم العهد وعدوانُهم على المؤمنين، فالقرآن يقول حين أمر بإعلان انتهاء عهد الأمان معهم: (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ، كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ) التوبة 7 و8 ، ولم يقل أنهم لا يقولون بوحدانية الله، ولا يصدقون برسالة محمد عليه السلام.

** معنى كلامك أن القرآن مع حرية الدين؟

* إن القرآن إتّخذ من الدفاع عن حرية التدين بأي دين كان سبباً لتوجيه أتباعه إلى قتال من اعتدوا عليهم بسبب دينهم، فقال: "أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ" الحج 39 و40، فلم يقل (ولولا دفع الله الناس لهدمت المساجد) وإنما ذكر المسجد وغيره من أماكن العبادة، فكأنه يقول إن إباحة القتال دفاعاً عن حرية التدين هو الكفيل بالحفاظ على التعددية المتسامحة. فلا يُعقلُ أن يأمرهم بعد ذلك بقتال قومٍ ما بسبب إنتسابهم إلى دين معين.

 ** وهل يوافقك أحد من العلماء في موقف القرآن من حرية التدين؟

* يتوافق ما قلته من عدم إباحة القتال بسبب اختلاف الدين، مع ما انتهى إليه محمود شلتوت من دراسته لآيات القتال في القرآن، من "أنه لا توجد آية واحدة في القرآن الكريم تدل أو تشير إلى أن القتال في الإسلام، لحمْل الناس على اعتناقه"، ويتوافق مع ما انتهى إليه عبد الرحمن حللي من دراسة نصوص القتال في القرآن، من أن: "القتال [في الإسلام] يقوم على علل واضحة، تتمثل في منع الظلم، ومنع الفتنة، (والفتنة هنا هي الإكراه والإضطهاد من أجل الدين)، وأن يكون الدين لله، (وكون الدين لله أن ينفرد الله بحساب الناس عليه، وذلك من خلال ضمان حرية الإعتقاد لجميع الناس). ولا تكاد تجد أحدا يجرؤ على القول بأن القرآن يقر الإكراه في الدين، ولكنك تجد كثيرين يقولون إنه لا إكراه في الدين، حين يقول قائد الجيش الإسلامي لبلد يهاجمها أو يحاصرها: إما أن تتحولوا من دينكم إلى دين الإسلام، وإما أن تدفعوا لنا مالاً سنوياً وأنتم صاغرون، وإما أن نحاربكم! وإذا لم يكن هذا إكراه فما هو الإكراه؟ إنني هنا أناقش الفكرة، ولا أتكلم عن التاريخ الإسلامي، ولا أدين أحداً من قادة الفتوح، فليس هذا هو الموضوع، ولكن الموضوع أننا ننسف مبدأ حرية التدين، طالما قبلنا التفسير الشائع لآية الجزية. إن القرآن نهى عن الإكراه في الدين، نهياً صريحاً، والتفسير الشائع لآية الجزية يتضمن إكراهاً دينياً صريحاً.

للاطلاع على الجزء الاول من الحوار... اضغط هنا

تنويه: المصدر أحمد عرفه رفض التصوير لأنه يخشى الظهور في وسائل الإعلام كصورة