القس. سامي بشاره
بقلم: القس سامي بشارة جيد
الأم في العائلة مثل عضلة القلب في جسد الإنسان تضخ الدفء والترابط والود والحنو، فإن أعددت رجلاً كسبت فرداً ولكن إن أعددت أماً كسبت أسرة، فالأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق.
إن المصطلح المفضل لديَّ هو أن ندعو الأم "ربة الأسرة" فالأم ربة أي أن لها رسالة روحية ناحية الأب وتجاه الأولاد ورسالة في الكنيسة والمجتمع، إن أول صورة تتكون في ذهن الأطفال عن الله وتبتدئ تنطبع في مخيلتهم تنبع من عيني أمه فهما تجسيداً لمحبة ورعاية وعطاء الله وأن علاقتها هي بالله واختبارها لنعمته ومعرفته في مرحلة التنشئة لهي الأساس الأول لاختبار الأسرة لله ولإدراك نعمته فإن كان الله في السماء كذلك الأم على الأرض.
إن أبوة الله وبحسب اللاهوت النسائي –أمومته- لهما الأساس الأول لفهم طبيعة الله حيث أنه أبانا الذي في السموات وأنه اللوجوس أي الكلمة المتجسد والمعرفة العقلية وأنه الحب فالله محبة، وقد أخذ السيد المسيح طاقته الإنسانية في القدرة على تعاطي المحبة من العذراء مريم، والأم في المسيح لها رسالة وفي الخلاص لها دور وفي الواقع المعاش عليها مسئولية وفي المجتمع لها احتياج فهي نصفه وهي رفيق ومعين النصف الآخر، ويذكر (W. Mackintosh ) "وحواء هي أم لجميع الأمهات اللاتي رأين ابنهن البكر المحبوب مكللاً بالعار ومن بين معارفنا يمكن أن نجد امرأة مكرسة وراسخة الإيمان كسارة ورمزاً للأمومة القوية المتلهفة كرفقة وراحيل المحبوبة والتي نرى سحرها يختفي مع كبر السن لتصبح مليئة بالحسد وفظة في الكلام ويمكن أن نرى في علاقتنا أمثلة لمريم ومرثا. (كل نساء الكتاب المقدس- هربرت لوكير- ص 24).
ويمكن ذكر ما يلي على سبيل المثال لا الحصر عن رسالة الأم في عائلة اليوم:
1- الدفء الأسري: من يجد الحب داخل البيت لا يطلبه خارجه ومن لا يجده فيه يبحث عنه خارجه، ومن لا يشبع دفئاً في الأسرة يظل أبداً يرتجف من برد الوحدة والعزلة والأنانية ولا يمكنه أن يبعث لأحد أي دفء، ففي عالم اليوم حيث الثقافة الكونية البراجماتية النفعية ما أحوجنا إلى ثقافة العطاء بلا حدود ومن دون مقابل كعطاء الأم، وفي تعاظم ثقافة الاستهلاك ما أحوجنا إلى ثقافة إنتاج أولاد مباركين صالحين لأنفسهم وللمجتمعـ وفي ازدياد برودة الطقس خلال شهر طوبة تهل علينا نسمات دافئة من أحضان الأمومة في مارس الربيع حيث عيد الأسرة تأتي زعابيب أمشير تخفف من حدة الثلوج العلاقاتية في عالم العزلة الكمبيوترية والغرف الإلكترونية.
إن الإنسان ليدفع كل ما لديه في مقابل جريه نحو حضن أمه وأن كل أجهزة التكيف في كل الأرض لا تعطي ولو ذرة من دفء ضمة أم ويدان تحوطان في رفق وبراءة وعنفوان.
إننا نعطي أولادنا أشياء كثيرة وحاجات متنوعة لكن هذه الأيام علينا بإعطائهم ما لا يستطيع أحد أن يقدمه لهم من تشجيع وتقبل واحتواء والارتواء من الأمومة والأبوة حتى يخرجوا أفضل ما عندهم ويبدعوا أروع ما فيهم.
إن الشجرة لكي تثمر تحتاج إلى جذور عميقة وأيضاً إلى أشعة الشمس فليكن العبير العائلي هو الحرارة التي تجعل شجرة العائلة مثمرة وأن في الأم طاقة الشمس التي تدعم الورقة وتجعلها تصنع غذاءاً وهي الرحيق الذي يطلبه النحل ويسعى في أثره ليحوله عسلاً فيه غذاء ومنه دواء.
إن الدفء الذي عملته وعلمته الأم تريزا لكل العالم يعد ميراثاً إنسانياً لكل الفقراء والمحرومين.
2- الترابط العائلي: كما ينسج العنكبوت خيوطه الحريرية الرقيقة القوية تنسج الأم العلاقات داخل البيت وكما يلون الربيع الأزاهير بألوان وردية وزنابق عطرية تكسي الأم مشاعر أفراد لأسرة بألوان الروح الجماعية وروح الفريق والانتماء إلى جدران واحدة وطريقة مأكل وملبس وعادات وسلوكيات مشتركة تعد شخصية الأبناء للخروج من شرنقة البلوكات الخرسانية إلى اشتات الناس في المجتمع.
يذكر جاوتس وجايل ليدبتر في كتاب (الترابط العائلي ص 15 تحت عنوان مفاده أن البيت مكان صياغة الله للشخصية) إذ يقول: (المكان الذي أعده الله لهذا النوع من التشكيل لا يحدث في الكنيسة -على الرغم من أهميتها ولا في المدرسة أو نوادي الأطفال أو أي مؤسسة حكومية- لقد قصد الله أن يتعلم الناس كل شيء عن الحياة في بيوتهم)، ويعطي الكاتب كلمة عبير وفي الإنجليزية Aroma التي تكوّنت حروفها من أوائل حروف خمس كلمات بالعربية تترجم: ود Affection – احترام Respect – نظام Order- مرح Merriment- تعزيز Affirmation . وكل هذا يخلق ترابطاً صحيحاً ملتزماً ومسئولاً ويصيغ وعيّاً صحياً مشمولاً بالواجبات والامتيازات، وأنا أقول إن الأم ليست مسئولة عن مطبخ الطعام فقط بل عن أن يكون البيت مطبخ صياغة شخصية الأسرة تماماً كما أن مكتبة الراعي هي مطبخ الكنيسة وأن الكنيسة هي مطعم المجتمع.
إن إنسانية المجتمع من إنسانية العائلة وأن ترابط المجتمع من ترابط العائلة وأن ترابط العائلة تنسج خيوطه الأم بوعي ورقة وانسيابية وعذوبة، إن ما نراه اليوم من تنامي التداعيات الإرهابية والنزعة الانتحارية لهو نتيجة لغياب الترابط العائلي ورفض للمرأة والرغبة في تحجيمها وتحجيبها ولهو من نوعية لم ترضع الحنان والعطف ولم تتجرع رحمة ورأفة الأمومة فالعنف مركب نفسي سياسي يلغي كل آخر مختلف حتى لو كان هذا الآخر هو الأم، والرغبة التفجيرية تأتي من النزعة في عدم لم الشمل وفقدان القدرة على العيش في جماعة أو أسرة أو تنوع أو تعدد.
إن الترابط الذي أراه ويغمرني وأنا ادخل بيت لليان تراشر تفتقده معظم قصور اليوم فقد أبدعت مجتمعاً يفتقر لكل شيء إلا روح العائلة حيث يسوع رب الأسرة الضيف الغير مرئي على كل مائدة والصديق الحقيقي لكل صادق صدوق مؤمن بميلاده وموته وقيامته وحيث "الديانة الطاهرة النقية عند الله الآب هي هذه: افتقاد اليتامى والأرامل في ضيقتهم وحفظ الإنسان نفسه بلا دنس من العالم (يعقوب 1: 27).
3- البعد الروحي: يلخص يوحنا ذهبي الفم رسالة الأم في العائلة عندما يقول "خير للإنسان أن يكون أقل فضيلة ويهدي غيره من أن يسكن على الجبال ويرى إخوته يهلكون!"، فالأم بيتها هو ديرها ومصير أولادها معبدها وخلاصهم قلايتها وكنيسة البيت هي المفرخ الأول لإنضاج جنين الفداء وسلوك الأم هو الصليب الذي يعلقون عليه إيمانهم.
إن المسيح الذي لم يصلب هو أمي والمسيح المقام هو أن انقل محبة أمي إلى أولادي، التكفير يحمل في داخله بذور الفناء والإيمان يجعل من الرغبة في البقاء وحب الحياة ثمار ناضجة وعملية النضج أحد مسئوليات الأم، والبعد الروحي الإيماني للأم في الأسرة هو رسالة العائلة كما كانت رسالة يوسف النجار والعذراء مريم أن يقدموا للعالم المسيا يسوع وكما قدمت لوئيس وافنيكى التلميذ تيموثاوس وقدمت حنة النبية الطفل صموئيل وقدمت إليصابات ذلك الصوت الصارخ يوحنا المعمدان.
إن كنيسة البيت هي أساس كنيسة المسيح وأن المذبح العائلي هو أساس كل الذبائح الروحية من تسبيح وإيمان وعطاء وتكريس. وفي (تيموثاوس الأولى 2: 15) (لكنها ستخلص بولادة الأولاد إن ثبتن في الإيمان والمحبة والقداسة مع التعقل) أي ولادة بنين مخلصين ليسوع وبيسوع وبمعنى أن رسالة الأم لا يمكن أن تختزل أو تبتذل في كونها مجرد وعاء إنجاب فقط -وإن كانت هذه رسالة في حد ذاتها- ولكن هناك إنجاب روحي بتقديم أولاد مخلصين، كما أكد الرسول بولس على ذلك حين قال: إذ أتذكر الإيمان العديم الرياء الذي سكن أولاً في جدتك لوئيس وأمك افنيكى". (تيموثاوس الثانية 1: 5).
4- مجابهة التحدي: قال لورن كننجهام ودافيد هاملتون "منذ جنة عدن حين قال الله للشيطان إن ثمرة بطن المرأة تسحق رأسه وإبليس يهاجم المرأة بكل شراسة في كل العالم إلا أن حال المرأة في البلاد التي تطبق مبادئ الكتاب المقدس أفضل كثيراً من حالها في البلاد الأخرى." (المرأة الخامة.. لم لا؟ ص16) ما أكثر التحديات التي تواجه أم اليوم من تحدي الأسرة الصغيرة يعد سقوط القبيلة والأسرة النووية في بيت العيلة والخروج إلى العمل ومواجهة الثورة المعلوماتية من سيل إعلامي مختلف وإباحي متحرر ومناهج تعليمية متأسلمة وثقافة إرهابية انتحارية وثورة جنسية منفلتة وطغيان عاطفي هروبي ومجتمع تواكلي قدري تتفشى فيه اللا مبالاة وعدم القدرة على تحمل المسئولية وتغليب الذكورة وضياع حقوق الإنسان وغياب العدالة الإنسانية... الخ ولكي تواجه وتجابه الأم في عصر العولمة كل هذا عليها أن تتعلم وتتثقف وتربي شخصية ناضجة لها أدوات العصر ولها دراية بما يدور حولها وما يدور في بيتها من انترنت وفيس بوك ودردشات حول العالم.
أيضاً على الأم في عائلة اليوم أن تضخ ثقافة كتابية إيمانية واعية وأن تبث أفكاراً رشيدة حكيمة متعقلة وعلى الكنيسة أن تقدم تعليماً نقياً لا ينقص من دورها ولا يقلص من عطائها كام وزوجة وقائدة وراعية. وعلى المجتمع أن يفسح لها المجال لتعبر عن نفسها كشريك وصديق ومعين ونظير للرجل وأيضاً أن يساندها ويسلحها بالعلم والمعرفة والمساواة والقبول فالعلم يبني بيوتاً لا عماد لها والجهل يهدم بيوت العز والكرم.
كل أم وهي طيبة وعيد أسرة سعيد. في حبك يا أمي إليكِ يا أمي...
إلى الزهرة التي قطفت وقطعت بلا استئذان
إلى الشمعة التي انطفأت وانكسرت في غفوة من ظلمة الأجفان
يمضي بي الزمان ويأتي عليَّ الزمان وتبقين وحدك أمي نبع الحنان
إلى أمي التي غابت وعن عيني لا تغيب برغم طول الزمان
إلى أمي التي رحلت بلا وداع وعن قلبي لن تغيب رغم بعد المكان
لو كان لي جناح فآتي إليكِ ليتني كنت استطيع الطيران
لأتيتك الآن يا أمي، علّني أجد الدفء فأنا من زمن افتقد الأمان
ولو خيروني معك في وطن لقلت فقط يديك كل أوطاني
وإن أنساكِ يا أمي ليالي العمر تنساني
إذا ما ضعت في خوف تبقى عينيك وحدهما عنواني
سنين هذا عددها وتظلين أنتِ نفس الحضن الحاني
أنغام عدة ربما تداعبني وتبقين أنتِ أحلى ألحاني
أنتِ محبتي وإن زاد البعد بيننا أنتِ في قلبي وفي مشاعري ووجداني
أنتِ الحياة وإن ضاق نعيمها، أنتِ الربيع وإن ضن بالألوان، أنتِ العطاء وأنتِ الوفاء
أنتِ الفرح وأنتِ نعيم أزماني، أنتِ النقاء وأنتِ الضياء وأنتِ بلسم جروحي دواء حرماني
يا نسمة كانت تهدي جموع الحائرين ويا همسة كانت تلطف صيف أكواني
يا بسمة كانت تريح المتعبين ويا شمعة أضاءت ليل أحزاني
كم سهرت وأنا أذاكر وكم تعبت وكم قدمت بكل تفاني
كنتِ البراءة كنتِ الطهر كنتِ المسيا كنتِ يسوع صلباني
أحببت الله في نور عينيك أحببت الناس من غير نكراني
كفاكِ دموعاِ يا أمي كفاك حزناً وكفاني
كلنا بخير يا أمي أولادك بخير وأبي بخير أكملنا مشوارك بلا تواني
حققنا كل أحلامك يا عمري منّا الطبيب والمعلم والخادم
والأم كما قد رسمت من أماني يسوع لكِ ولنا يد يسوع ترعاك وترعاني
هو نعم الرفيق ونعم الصديق وعند يسوع سوف نلتقي دون موت ثاني
أحبك أبداً يا أمي فحبك ربيع إيماني
احبك أنتِ دائماً فحبك عيد أزماني
لو كاد الحزن يقتلني لحبكِ أنتِ أبقاني
إن كان الموت يصلبني فحب يسوع أحياني
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=727&I=21