نجيب محفوظ‮ (‬1‮ ‬من‮ ‬2‮)‬

بقلم: يحيى الرخاوي

 بالله عليكم‮: ‬هل رحل هذا الرجل‮..‬؟‮!‬ 
ثلاث سنوات علي رحيله،‮ ‬ولم،‮ ‬ولن‮ ‬يرحل أبدا‮.. ‬صاحبت هذا الرجل من‮ ‬16‮ ‬نوفمبر‮ ‬1994‮ ‬وحتي قرب رحيله الجسدي عنا‮ ‬2006‭/‬8‭/‬30،‮ ‬يوميا،‮ ‬ثم ثلاث مرات أسبوعيا،‮ ‬ثم مرتين ثم مرة،‮ ‬في البداية كنت متحمسا منبهرا ألتقط كل ما‮ ‬يصلني وأسجل بعضه بعد كل لقاء،‮ ‬حتي شعرت أنها ثروة أكبر من سعة خزائني التي أعرفها،‮ ‬والتي لا أعرفها،‮ ‬فتوقفت،‮ ‬رجعت إلي أوراقي فوجدت أنني سجلت بعض ما دار بيننا من‮ ‬1994‭/‬12‭/‬11‮ ‬حتي‮: ‬1995‭/‬8‭/‬17فقط لا‮ ‬غير،‮ ‬ثمانية أشهر كتبت فيها ما كتبت‮. ‬لماذا توقفت؟‮! ‬لست أدري،أنا آسف،‮ ‬وفيمايلي‮ ‬بعض ذلك‮:‬ الأحد‮ ‬1995‭/‬1‭/‬8 غبت عنه مضطرا لمدة‮ ‬48‮ ‬ساعة،‮ ‬ذهبت مساء إليه،‮ ‬ووجدته‮ ‬يمشي‮ ‬في‮ ‬الصالة،‮ ‬وحين رآني‮ ‬هتف‮ »‬مش معقول‮«‬،‮ ‬وأخطرني‮ ‬كيف راح‮ ‬يبحث عن رقم تليفوني‮ ‬ليسأل عن سر‮ ‬غيبتي،‮ ‬

وعن صحتي،‮ ‬اعتدت مثل هذا الاستقبال،‮ ‬فهو سمة طبعه الدمث الكريم،‮ ‬وليس لأهميتي‮ ‬الخاصة،‮ ‬ومع ذلك لم استطع أن أكتم فرحتي‮ -‬عن نفسي‮ - ‬وأنا أتصور‮ - ‬خطأ‮ - ‬أنه‮ ‬يخصني‮ ‬به‮.‬ جلست بجواره،‮ ‬ملت علي‮ ‬أذنه اليسري‮ ‬استفسر منه عن الرأي‮ ‬الذي‮ ‬أرسله لندوة‮ - »‬نحو مشروع قومي‮ ‬حضاري‮« ‬والذي‮ ‬عقد بالأهرام،‮ ‬والذي‮ ‬يقول فيه‮ »‬إن السبيل إلي‮ ‬نهضتنا هو الإسلام‮«‬،‮ ‬سألته هل قال ذلك فعلا؟ أجابني‮ ‬بالايجاب،‮ ‬وقد وصلته دهشتي‮ ‬من هذا التصريح الذي‮ ‬لا‮ ‬يتناسب‮ - ‬ظاهرا علي‮ ‬الأقل‮ - ‬مع ما لحقه باسم الإسلام بشكل أو بآخر،‮ ‬ذلك الإسلام المطروح علي‮ ‬وعي‮ ‬هؤلاء الشباب كصفائح مسنونة من شظايا سامة ليست لها أدني‮ ‬علاقة بالإسلام،‮ ‬وصلته دهشتي‮ ‬بحجمها،‮ ‬سألته‮: ‬أي‮ ‬إسلام‮ ‬يعني؟ قال لي‮ ‬إنه إنما قال ذلك رابطا إياه بأن‮ ‬يتم هذا في‮ ‬حوار مع معطيات العلم والإبداع وجميع مناهل المعرفة المعاصرة الأخري،‮ ‬قلت له‮ ‬يبدو أن كلمة الإسلام تعني‮ ‬عند كل واحد من المسلمين وغير المسلمين معني‮ ‬مختلفا،‮ ‬وكيف أنني‮ ‬أجادل ابني‮ ‬وزملاءه منذ أعوام وهم‮ ‬يعارضون زعمي‮ ‬أنني‮ ‬مدين للغتي‮ ‬وديني‮ ‬بأغلب معرفتي‮ ‬بكل تنويعاتها،‮ ‬وهم‮ ‬ينبهونني‮ ‬أنني‮ ‬أتكلم عن إسلامي‮ ‬الخاص،‮ ‬وليس عن الاسلام،‮ ‬فأي‮ ‬إسلام كان‮ ‬يعني‮ ‬بتصريحه هذا؟،‮

‬سألني‮: ‬وهل كنت مشاركا في‮ ‬هذه الندوة،‮ »‬ندوة الأهرام‮« ‬فأجبت بالنفي،‮ ‬لكنها كانت مثار تعليقات مختلفة مع زملاء في‮ ‬المجلس الأعلي‮ ‬للثقافة في‮ ‬لجنة ما،‮ ‬سألني‮ ‬ماذا قالوا؟ قلت إن أحد زملائنا في‮ ‬هذه اللجنة،‮ ‬وهو قبطي،‮ ‬ذكي،‮ ‬شجاع،‮ ‬علماني،‮ ‬مستنير،‮ ‬خائف،‮ ‬يساري‮ »‬سابقا‮«‬،‮ ‬عقب تعقيبا هو الذي‮ ‬جعلني‮ ‬افتح الموضوع معه الآن،‮ ‬سألني‮ ‬شيخي ماذا قال؟ قلت إنه عقب،‮ ‬ماطا شفتيه،‮ ‬بأنها‮ »‬كانت كلمة‮ »‬ماسخة‮«‬،‮ ‬لم تزد عن إعلان محفوظ‮: ‬أنه مسلم‮«.‬ أطرق شيخي‮ ‬صامتا فترة ليست قصيرة،‮ ‬ثم رفع رأسه قائلا‮: ‬ماذا‮ ‬يريدون؟ وكأنني‮ ‬بهم لن‮ ‬يشعروا بالأمان إلا إذا أنكر عشرات الملايين الذين‮ ‬يمثلون أغلبية شعبنا دينهم،‮ ‬أو تنكروا له‮. ‬إن علينا أن نبدأ من الواقع،‮ ‬إن الأمان لا‮ ‬يأتي‮ ‬إلا حين‮ ‬يمارس الناس ما‮ »‬هم‮«‬،‮ ‬وأغلب ناس بلدنا مسلمون،‮ ‬فليمارسوا إسلامهم،‮ ‬وحين‮ ‬يمارسونه بطريقة صحيحة،‮ ‬فإن الأمان سيعم كلا من الأغلبية والأقلية،‮ ‬هذا هو الواقع الواجب احترامه‮.

‬قلت له،‮ »‬إن المشكلة تتمثل في‮ ‬حكاية التطبيق السليم هذه،‮ ‬من ذا الذي‮ ‬سوف‮ ‬يطبق أحلام ووعود ديننا الحنيف كما‮ ‬ينبغي‮ ‬ويستحق‮«‬،‮ ‬قال لي‮: »‬هذه هي‮ ‬مشكلة كل النظريات والقوانين،‮ ‬ألم‮ ‬يحدث مثل ذلك في‮ ‬تطبيق الماركسية في‮ ‬الاتحاد السوفيتي‮«‬؟ فهمت،‮ ‬وتعجبت،‮ ‬وصمت،‮ ‬وأجلت استكمال اعتراضاتي‮ ‬وتحفظاتي،‮ ‬كان عليّ‮ ‬أن أنصرف،‮ ‬وأنا أحدد له الميعاد التالي،‮ ‬قالت إننا‮ ‬غيرنا ميعاد الثلاثاء إلي‮ ‬الأربعاء بمناسبة تحفظات بعض الأصدقاء بعد إعلان الحكم علي‮ ‬الجناة،‮ ‬قال ليكن،‮ ‬ثم صمت قليلا وأردف‮ »‬أليس بعيدا‮ ‬يوم الأربعاء«؟ أدركت لتوي‮ ‬حاجته إلي‮ ‬الهواء والناس،‮ ‬قلت علي‮ ‬الفور‮: ‬سوف أحاول أن أتصل بمن تيسر،‮ ‬ثم نخرج‮ ‬غدا دون أن نعرف إلي‮ ‬أين،‮ ‬فتهلل،‮ ‬وطلب أن أكلم زكي‮ ‬سالم وتوفيق صالح ومن أستطيع‮.‬ ‮»‬اليوم التالي‮« ‬الاثنين‮ ‬1995‭/‬1‭/‬9 اتصلت بكل الناس ولم أستطع أن أوفق.

ذهبت وحدي‮ ‬مترددا خائفا من عجزي‮ ‬عن ملء الوقت،‮ ‬دخلت عليه قبل السادسة ويدي‮ ‬علي‮ ‬قلبي،‮ ‬هو الذي‮ ‬فتح لي‮ ‬ربما قبل أن أدق الجرس،‮ ‬وجدته مرتديا جاهزا،‮ ‬سأل‮: ‬معك أحد؟ قلت لم أعثر علي‮ »‬زبائن‮«‬،‮ ‬قال حتي‮ ‬محمد‮ »‬ابني‮« ‬قلت إنه‮ ‬يحضر مناقشة رسالة زميل،‮ ‬قال شيخي‮ ‬إن زوجته عندها واجب عزاء،‮ ‬ابنة أخته،‮ ‬وذكر لي‮ ‬آسفا أن ثلاثة من أبناء إخوته قد ماتوا منذ أن دخل المستشفي،‮ ‬ابنة أخ وابنة اخت وهذه هي‮ ‬الثالثة،‮ ‬كان حزينا،‮ ‬يقرن الموت بقضاء الله دون أن‮ ‬ينتقص ذلك ذرة من زخم الحياة الذي‮ ‬يملأه،‮ ‬لا أدري‮ ‬لماذا كنت أتصوره دائمًا بلا أخ ولا أخت،‮ ‬وهأنذا أكتشف أنه‮ - ‬مثل البشر‮ - ‬له اخوة واخوات،‮ ‬ينجبون صبيانا وبناتا،‮ ‬يكبرون في‮ ‬السن،‮ ‬وها هم‮ ‬يموتون الواحد تلو الآخر،‮ ‬فيحزن لفراقهم،‮ ‬ما الغريب في‮ ‬ذلك؟ فيم دهشتي؟،

‬ويبدو أنه لاحظ اسهامي،‮ ‬فأقبل‮ ‬يتأبط ذراعي‮ ‬مندفعا وهو‮ ‬يقول كأنه‮ ‬يأمر‮ »‬هيا بنا‮«‬،‮ ‬فتصورت أنه خشي‮ ‬أن أرجع في‮ ‬كلامي‮ ‬لافتقارنا إلي‮ ‬أصدقاء آخرين،‮ ‬أعدت تذكرته بأنه لن‮ ‬يحضر‮ ‬غيرنا،‮ ‬فلم‮ ‬يرد،‮ ‬وزاد اندفاعه وهو‮ ‬يكاد‮ ‬يدفعني‮ ‬دفع المشتاق دائما إلي‮ ‬الهواء والناس،‮ ‬وقال‮: »‬ليكن،‮ ‬فلنمض الليلة رأسا لرأس‮ (‬قالها بالفرنسية‮ ‬Tete a tete‮)‬،‮ ‬وفرحت ومضينا معا‮.. ‬بالله عليكم‮: ‬هل رحل هذا الرجل؟‮! »‬نكمل الأسبوع المقبل‮«.‬  
 
نقلا عن الوفد

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع