المصري أفندي

ماجد سمير

بقلم: ماجد سمير
المصري أفندي.. لقب عزيز على قلبي، فهو مرتبط في ذهني بصورة جدي بالطربوش والقميص الكول كاسية المنشي المتزين البيبيون أو السكارف وكذلك أزرار القميص الذهبية، وجدي الذي لم يسعدني الحظ أن أراه لوفاته قبل ولادتي بسنوات كان رجل شديد الجدية وعمل بشكاتبًا لبنك التسليف الزراعي ببني سويف لفترة طويلة وكان يكتب الشعر بكل أنواعه فضلاً عن إجادته كتابة القصة القصيرة.
وارتبطت بني سويف في وجداني بشكل كبير بذكرى الأجداد والأسلاف، صحيح لم يبق من الأقراب إلا عدد قليل جدًا إلا أن الماضي لا يمكن نسيانه أبدًا، ويوم أن اتفقت على توزيع كتابي "كلمة ورد غطاها" هناك انتابني شعور لا أستطيع وصفه وسعادة لها طعم مختلف تمامًا وتمنيت أن أصرخ مناديًا على روح أجدادي معلنًا لهم أني موجود في وسطهم وامتدادًا لهم.
وعلاقتي بالزميل عماد خليل فيها شيء من الخصوصية ربما لأنه من مواليد نفس المكان الذي وُلد فيه أبي وجدي وأفراد عائلتي.. تنفس نفس الهواء وشرب من نفس الماء، وهو شخص خفيف الظل وتلقائي بشكل مميز جدًا، وأتذكر أننا أطلقنا على أحد المطاعم في منقطة وسط البلد بالقاهرة اسم الرجل "الحقير" في وصف يتنافى مع حقيقة المطعم وأكله اللذيذ، وذات مرة اختفى "عمدة" كما نحب أن نناديه واتصل أحد الأصدقاء بالتليفون يسأل عنه ولم يجده فتكلم معه على الموبايل وسأله: انت فين يا عماد أنا قالب عليك الدنيا، فرد عماد بصوت عالي: أنا هنا باكل عند الرجل الحقير، وساد المطعم سكوت تام مفاجئ، وأدرك "عمدة" صعوبة الموقف فوقف فاردا طوله وعرضه وجسمه العملاق، "وزغر" لكل من في المطعم بطريقة شرسة جعلتهم يكملون عملهم دون أي تعليق، ولولا جسم عماد الضخم وقوته البدنية الواضحة لحدث ما لا يُحمد عقباه.
ويوم أن ذهبت إلى بني سويف لتقديم واجب العزاء في والد "عماد" رحمه الله ركبت من مدينة بني سويف "ميكروباص" ينقلني إلى قرية "بني بخيت"، وأهل بني سويف لهم لهجة خاصة تلغي الحرف الأخير من الكلمة فمثلاً اسم قرية عماد تنطق أولا بفتح حرف الباء وكذلك إلغاء حرف التاء الأخير في الكلمة فتصبح "بني بخي....".
وبعد ركوبي الميكروباص جلست خلف السائق تمامًا وركب بجواري رجل ضخم الجثة فاتحًا قدماه على طريقة الزاوية "المتفرجحة" لدرجة أنه لصقني تمامًا في الشباك المجوار لي فضلاً عن تركه لمساحة ضيقة جدًا للسيدة التي تجلس بجواره من الناحية الأخرى، وبعد فترة وجيزة سألت السائق عن المسافة من بني سويف لبني بخيت، فالتفت الرجل الضخم ونظر لي متسائلاً: أنت مش من بني بخي.....?! فابتسمت قائلاً: لأ، فرد بشكل سريع جدًا وعلامات الاستغراب والفضول تكاد تقفز من وجهه الذي يحمل ملامح كل ما فيها كبير سواء أذنيه التي تشبة الرادار الجاهز لالتقاط أي إشارة وفك شفرتها على الفور أو أنفه وكذلك عنيه الواسعة بطريقة توضح قدرته الفائقة على رؤية أي شيء مهما كان صغير فضلاً عن شفايف فمه الضخمة وقال: جي لي..... يقصد جي ليه ولكن قصة الحرف الأخير "السايلانت" الذي لا يُنطق حذفت حرف الـ"هـ"، والطبيعي لمواجهة فضوله أن يكون ردي: وانت مالك إيه اللي دخلك فيما لا يعنيك، لكن طريقة الرجل التلقائية جعلتني أرد قائلاً: أنا جي اعمل واجب عزاء، فازداد فضول الرجل بطريقة توضح مدى تأثره بخبر وفاة شخص حتى لو لم يكن يعرفه وارتعد شفتاه الضخمة وسأل بسرعة شديدة: مين ما....، فقلت له شخص عزيز.. تدخل السائق قائلاً له: وانت مالك يا ابو سيد سيب الأستاذ في حاله متبقاش حشري، وأكمل حديثه معي مضيفًا أول ماتيجي البلد هاقول... يقصد هاقولك.
رد السائق لم يعجب أبو سيد قرر أن يشاكسه وطلب منه أن يقم بتوصيله لمنطقة لا يصل إليها خط الميكروباص المتجهة لبني بخيت ورد عليه السائق بما يعني أنه لن يفعل ذلك، واستمر الخلاف بينهما إلى أن قال لي السائق: هنا بني بخيت يا أستاذ، ونزلت وقابلت عماد وعائلته ووجدتهم يشبهون أهلي وشممت فيهم رائحة أجدادي وطيبة قلبهم، وعدت إلى القاهرة طالبًا الرحمة لكل أهلي على رأسهم "عم خليل".