عن العلم والدين وقضايا الحسبة..!

محمد زيان

بقلم: محمد زيان
لو سلمنا بأن الكون يتكون من عدة مفردات تتكامل فيما بينها هي الكائن الحي، الجماد، والدين، والعلم، فإن دور العلم والدين هنا يكون هو التنظير وإرساء مجموعة القواعد والنظريات التي يسير عليها الأحياء، وهذا هو حال الدين وإرساء منظومة القواعد الحاكمة لسير الأحياء وتفاعلاتهم مع المادة أو الجماد هو شأن العلم فإن هذا يقودنا إلى عدة حقائق جديرة بالملاحظة والاهتمام لمعرفة حدود إنزال العلم أو الدين على ظاهرة من الظواهر الموجودة في المجتمع، فالعلم بدوره يتفرع إلى عدة علوم هي: الكيمياء والفيزياء، القانون، الطب، العلوم الإنسانية، الإجتماعية، علم الأحياء وغيرها من أنواع العلوم التي تحكم سير السلوك البشري وسلوك الصخور والنباتات والتطور الطبيعي لكل ما هو حي على ظهر الوجود.

هنا يمكننا أن نستخلص أن العلم له مجالات رحبة كثيرة يفسرها ويعالج أخطاءها ويضع قوانين عدة تحكم النظرة إليها والتعامل معها على مر العصور، ونضرب هنا مثالاً على ذلك بنظرية التطور المتداولة منذ العصور البعيدة، نظرية الجاذبية الأرضية، قوانين الحركة لنيوتن، نظرية الأواني المستطرقة، وأخيرًا علم الفيتموثانية هذا في مجال علوم التجريب والمعمل، وعلى الجانب الآخر في مجال العلوم والآداب نجد نظريات عديدة في علوم اللغات منها نظرية التراكيب والدلالات المعرفية للغة التي وضعها تشومسكي، ونظريات الرياضيات، ونظرية الحق في القانون، وعلوم الإحصاء، وقواعد المنطق التي وضعها أرسطو وأفلاطون، والنظرية السياسية وعلم الإدارة ونظم الحكم في بلدان العالم، والقواعد التي تحكم سير المحركات واندفاع الآلات، وقوانين الشد والجذب وعلم النحو والصرف والعروض.
أما الدين فهو مجموعة القواعد والنصوص التي تبدو مهمتها في إرساء قيم الحق والخير والعدل والسلام في المجتمعات، وهذا ما قرأناه على مر العصور عندما يرسل الله الرسل إلى أقوامهم فيبدأون في تعريفهم بالله ثم يبادرون إلى غرس هذه القيم في هذه المجتمعات وتأصيلها بحيث لا يمكن استبدالها عند هؤلاء الأقوام أو هؤلاء، فرأينا في الأديان قيم الحق والجمال، العمل، الخير، السلام، إرساء منظومة التعامل مع هذا الخالق من خلال النصوص، وقد تطرق الدين في هذه الجزئية إلى النشأة والتكوين الأولى للإنسان فنجد في اليهودية والمسيحية والإسلام الحديث عن التكوين والخروج والإعمار للأرض والحديث عن العمل الصالح والخير والشر والدار الآخرة وقد تناولت الاديان كما أشرنا نشأة الإنسان.

من خلال هذا العرض أيضًا نخلص إلى أن مهمة الدين تبدو في توفير قدر من السعادة للبشرية من خلال تعليمهم القيم التي تؤدي بهم إلى السعادة في الدنيا والآخرة، فهي مجموعة من القيم الروحية المرتبطة بعالم المشاعر والأحاسيس الغير ملموسة وتدخل في إطار العلاقات الخفية بين أتباع الأديان وربهم وترى الأديان تضع مجموعة من الأفعال المحكومة بهذه المشاعر والقيم والتي يغلب عليها طابع العلاقة الشخصية، بحيث إذا ما تجاوزت هذا الجزء تعتبر رياء كالصلاة والزكاة عمل الخير في الإسلام ومثلها في المسيحية واليهودية، وبالطبع يمتثل هنا من يريد أن يحصل على الثواب بأن تكون هذه الأفعال في إطار العلاقة الشخصية، ونجد أيضًا أن للعلم مجالات أرحب من تلك المجالات التي يغطيها الدين، وإذا تصورنا أن هناك من يخالف هذه الفكرة فليبدأ ويقوم بعمل إحصاء للمجالات التي يتحدث فيها العلم وتلك التي يغطيها الدين.. على أن المحصلة النهائية لهذا الإحصاء أو الاستقراء تقودنا إلى التسليم بأن هناك مجالات لا يصح أن يتدخل فيها الدين أو حتى يتم الزج به لإضفاء الشرعية على عمل يقوم به مجموعة من الأشخاص، كالقيام برفع دعاوى على الناس باسم الحسبة وهو مجال الحديث في هذه السطور.

والحسبة تعني في اللغة العربية حسن التدبير والنظر في الأمور في إطار "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" وهي نظام اجتماعي تعارف عليه قديمًا تمت الاستعاضة عنه بالقواعد القانونية المنظمة للعقوبات في قانون العقوبات والجنائي والإداري وبقية الفروع حتى أصبح استمراره الآن بمثابة الرجوع إلى العصور القديمة في التشريع.
والحسبة كان لها وجود في العصور الغابرة منذ آلاف السنين وتطورت من نظام رقابي يحاسب الفساد إلى نظام لأخذ الحق من الظالم في عهد الرسالة إلى أن أصبحت تتم بدافع شخصي لكل من يريد أن يرفع دعوى على الآخرين باسم الدين، مرورًا بعصر الخلفاء الراشدين والعصر الأموي والعباسي وكانت تدعى ديوان المظالم (أي كانت هناك مظلمة لأحد يريد ردها).. وصلت الآن إلى القيام بدور محاكم التفتيش كما في بعض البلدان التي لديها شرطة للحسبة كما في السعودية "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، و"شرطة الحسبة في باكستان" وبعض الدول التي ترفع لواء الشريعة.

وقد عرفت مصر الحسبة منذ القرن 3ﻫ/ 9م، وكانت أعمالها موزعة بين القاضي وصاحب الخراج وصاحب الشرطة وصاحب المظالم والوالي أحيانًا أخرى، واستمرَّت الحسبة في العصر الإخشيدي، والفاطمي أيضًا جرت العادة أن يصدر ديوان الإنشاء سجلاً بتعيين المحتسب ويقرأ على منبر جامع عمرو ويُطاف به في موكب بالطبول والبنود، وكان المحتسب يجلس بجامع القاهرة والفسطاط يومًا بعد يومٍ ويطوف نوابه على أرباب المعايش.
وأصبحت الحسبة منصبًا مستقلاً منذ نهاية العصر الطولوني وفي الفترة السابقة على استقلال الإخشيديين بها، فقد وردت إشارات في المصادر تنم عن ذلك، وانتقلت الحسبة إلى العصر الأيوبي ومنه إلى العصر المملوكي حتى إن القلقشندي قد صنَّفها ضمن الوظائف الدينية ذات المنزلة العالية في الدولة؛ حيث جعل ترتيبها الخامس ضمن الوظائف الدينية، ولكن الحسبة فسدت في ذلك العصر لانتشار الرشاوى، وأيضًا لم تعد قاصرةً على رجال الدين من العلماء والفقهاء، بل شاركهم فيها الطبقة العسكرية منذ أن عهد بها السلطان المؤيد شيخ ولأول مرة إلى الأمير علاء الدين منكلي بغا عام 816ﻫ / 1413م.

وكما بدأنا فإن النص لم يأتِ لتقييد العلوم وإلا فأين هذا النص الذي قال بالحسبة رغم أن النصوص التي وردت في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم تذكر لفظ الحسبة ولو بطريق الصدفة، ثم أن هناك تساؤلاً هامًا يطرح نفسه في هذه الجزئية: هل الله عندما أنزل النص لم يكن يقدر أن يقول: "الحسبة نظام لمقاضاة الذين يخرجون على الدين ويشوهون صورته ويقولون أنه إبداع "؟، أو يحذر من النصوص الأدبية لأنها تناقض الدين؟، بالطبع كان يقدر إذا علمنا أن النص تحدث عن الشعر وقال "والشعراء يتبعهم الغاوون". ولم يكن الله عاجزًا عن القول بصيغة التصريح ليخبر الجميع أن هناك نظام للمقاضاة باسم الدين.!
الجزئية الهامة هنا هي أن هناك تداخل غير مستحب بين الدين والعلم في جزئية الحسبة، فالدين هنا يريد أن يقصي العلم ونقصد العلم القانوني على يد المتبعين (بصورة أوضح نجد أن بعض الشيوخ يحاولون فرض الدين على العلم وإن كان الدين لم ينص صراحة على هذه الجزئية الخاصة بالحسبة) وبالتالى فإن الاشتباك الحادث هنا يبدو في رغبة قلة ممن يريدون أن يسيطروا أو تكون لهم الكلمة الطولى في الأديان أن يصبحوا نجومًا في سماء الكون.. السيطرة وسماع كلامهم، بل وفرضه على رؤؤس الاشهاد بالمخالفة لصريح النص، ويبدو أن هذا التداخل المفتعل لمقاضاة الفكر وأهله والعاملون في مجالات لا يختص بها الدين قد حركت هؤلاء لبسط سيطرتهم عليها باسم الدين.

هنا يمكننا أن نفهم الحملة الشعواء التي قادها بعض الشيوخ ضد أهل الرأي والفكر والإبداع منذ نصر حامد أبو زيد والتفريق بينه وبين زوجه وهو العمل الذي قال القرآن أنه من أعمال السحرة مرورًا بفرج فودة واستحلال دمه بالمخالفة للنص أيضًا نسأل (هل النص أمر البشر بقتل البش؟ أم حرم القتل وجعله من أكبر الكبائر؟)، وسيد القمنى وحلمي سالم وجابر عصفور، نوال السعداوي، سعد الدين ابراهيم وايناس الدغيدي ودوللي شاهين ويسرا وعادل إمام وكل الذين تعرضوا لهذا الإرهاب الفكري من المنتفعين بالالتصاق بالدين!
 
يبقى الشق القانوني في هذا العرض لقضية الحسبة وهو إدخالها ضمن المنظومة القانونية في أعقاب أزمة الدكتور نصر حامد أبو زيد حيث أدخل تعديلاً تشريعيًا على قانون المرافعات وبمقتضى نص أضيف بالقانون رقم 81 لسنة 96 لقانون المرافعات المصري، أصبحت دعوى الحسبة في قانون المرافعات المصري غير قائمة وأسندت تلك الدعوى إلى النيابة العامة باعتبارها ممثلة للمجتمع. ولو نظرنا إلى الحسبة في النظام القانوني السعودي نجد أن قانون المرافعات السعودي يأخذ في المادة (5) منه بدعوى الحسبة ويقيدها بشروط منها: أن ترفع تلك الدعوى من ثلاثة من المواطنين، أن تكون في الدعوى مصلحة عامة، أن لا يكون في البلد (جهة رسمية)، ومن ثم ضاق الفارق بين نظام المرافعات السعودي وقانون المرافعات المصري واعتبرت النيابة العامة في قانون المرافعات و(أي جهة رسمية) في نظام المرافعات السعودي هي التي تتولى دعوى الحسبة (المصدر: دراسة مقارنة بين نظام المرافعات المصرى والسعودي، منتدى عالم القانون).

الخلاصة: إن مصر الآن تعيش في القرن الحادي والعشرين ولا يزال هناك من يفكرون بفكر قديم ولا يمتثلون للتطور الحادث في نظم القانون ويقارعون القواعد الحاكمة لأنظمة التقاضي ويحتجون ويتمردون وكأنهم مُنحوا الحق الإلهي في مقاضاة البشر، في الوقت الذي لا توجد فيه هذه الأنظمة في دول مثل أوروبا والولايات المتحدة ولكنها تتطور احتكامًا إلى قانون يعاقب كل من يخرج عليه، ثم أن ظهور دعاوى الحسبة والأوصياء يوحي إليك أن المجتمع كله متمرد على الدين والشريعة إذا كان هؤلاء لا بد أن يواجدون، ومن ثم يكون هناك خطأ كبير تبدأ معه كلمة نحن وهم للظهور، وأعتقد انه أيضًا من خلال هذا العرض البسيط ينبغى على الذين يحاولون كسب مساحات للدين على حساب العلم والتطور أن يراجعوا أنفسهم في ظل عالم الميكرو والفيتموثانية والإليكترون.!

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع