لطيف شاكر
بقلم: لطيف شاكر
المعلم يعقوب قاد حركة وطنية تسعى إلى ان تكون مصر للمصريين وتبنى مبادئ استقلال مصر(د.لويس عوض).
أثار قيام الهيئة العامة لقصور الثقافة التابعة لوزارة الثقافة في مصر باعادة إصدار كتاب "المعلم يعقوب بين الحقيقة والأسطورة" لمؤلفه د. أحمد حسين الصاوي جدلا ثقافيا واسعا وردود فعل غاضبة في الأوساط القبطية وصلت لحد المطالبة بمصادرة الكتاب. والمعلم يعقوب حنا الملقب بالجنرال يعقوب من الشخصيات التاريخية المثيرة للجدل وذاع صيته إبان الحملة الفرنسية على مصر عام 1798م عقب قيامه بتنظيم جيش من الأقباط على نفقته الخاصة قاتل ضمن صفوف الحملة الفرنسية ضد الدولة العثمانية في مصر، فاعتبره البعض خائناً لوطنه وعميلا للإحتلال الفرنسي بينما اعتبره آخرون مخلصا وثائراً على النظام العثماني، ويرجع غضب الأقباط إلى ان الكتاب الذي أعيد نشره يتبنى رؤية تعتبر المعلم يعقوب خائناً لوطنه.
أوضح المفكر العلماني منسق جماعة الأقباط العلمانيون كمال زاخر ان إعادة نشر الكتاب دلالة على ان القائمين على منابع التثقيف في مصر تم اختراقهم من المتطرفين وتأتي إعادة نشر الكتاب ضمن خطة طويلة الأمد لتدمير الرموز المصرية خاصة القبطية منها. وأضاف ما فعله المعلم يعقوب لا يمكن إخراجه من سياقه التاريخي لأن وجهة نظره وقتها الداعية إلى مساندة الحملة الفرنسية كانت عبارة عن ثورة ضد النظام العثماني.
وهنا نتسائل.. هل الحملة الفرنسية كانت إحتلال؟.. لكن، ألم يكن الحكم العثماني لمصر أيضاً إحتلالاً وإحتلالاً بغيضا مقيتا متخلفاً ظالماً؟ وقد طالب السيد نبيل عبدالفتاح الباحث بمركز الأهرام للدراسات السياسية وزارة الثقافة بإعادة إصدار كتب أخرى قال انها انصفت المعلم يعقوب واعتبرته ثائراً مثل كتاب المفكر المعروف الدكتور لويس عوض الذي اعتبر المعلم يعقوب قاد حركة وطنية تسعى إلى ان تكون مصر للمصريين وتبنى مبادئ استقلال مصر، وأيضاً كتاب شيخ المؤرخين محمد شفيق غربال، الذي اعتبر المعلم يعقوب شخصية وطنية كانت تسعى إلى استقلال مصر عن الدولة العثمانية.
ويبدأ كتاب احمد الصاوي الذي أثار الجدل بمقدمة لأسامة عفيفي رئيس سلسلة كتب هيئة قصور الثقافة يقول فيها: مؤرخو التاريخ المصري الحديث اجمعوا على خيانة المعلم يعقوب لتعاونه مع المحتل وان وثائق المحتل نفسه كشفت دوره في التآمر على المقاومة الشعبية المصرية (وطبعا هذا كذب فاضح).
واستعرض مؤلف الكتاب في صفحته رقم 13 الملامح العامة للأقباط أثناء الحملة الفرنسية على مصر مؤكداً ان الأقباط من أصحاب المصالح تعاطفوا مع الغزاه الجدد باعتبارهم مخلصين وكذلك مسيحيين سوف يحررونهم من الخضوع لسلطان المسلمين (والعكس صحيح لموالاة الفرنسيين للمسلمين دون المسيحيين).
وأضاف الكتاب في صفحة رقم 30 (الفرنسيون بخطتهم الاستعمارية ويعقوب باحلامه وتطلعاته التقيا على إرادة واحدة تجسدت في إنجاز واحد هو تكوين الفيلق القبطي "هذا الفيلق انقذ أقباط القاهرة من الإبادة" وقد وردت هذه السطور ضمن مقالة بعنوان "غضب في الأوساط القبطية"، ووصل لحد المطالبة بمصادرة الكتاب ودعونا نرد على هذا الكتاب المشحون بالإفتراءات الكاذبة والإتهامات الملفقة الغير أمينة والتي ستأخذ منا عدة مقالات من واقع الكتب الموثقة من أعمال أكثر المؤرخين صدقاً وشفافية مسلمين ومسيحيين، أجانب ومصريين، ولا يستطيع احد ان يطعن في مصداقيتهم، خاصة وأن مؤلفاتهم صدرت بلغات متعددة ومحفوظة بأرقى المكتبات العالمية وبذلك تكون كتبهم هي الأصدق، دون الآخرين المتطفلين على موائد المتطرفين بنظرة متعصبة دينية تخلو من الأمانة التاريخية وبعيدة كل البعد عن الحقيقة.
ولنبدأ في هذه الحلقة من الآخر حيث رحيل الحملة الفرنسية ومغادرة يعقوب مصر بتقنية "الفلاش باك" لتتضح أمام القارئ حقيقة الانتكاسات الجماهيرية بعد خروج الفرنسيين من مصر من واقع ما كتبه المؤرخ المعاصر المحايد الأستاذ عبدالعزيز جمال الدين في موسوعته الرائعة "تاريخ مصر المجلد الثاني الجزء الرابع": "..... لعل ما جاء في مقدمة مظاهر التقديس للجبرتي من التعليقات الدالة على كراهية الوجود الأجنبي الفرنسي وإظهار الفرح بزوال الفرنسيين والإشادة بالدولة العثمانية والثناء عليها، يمثل تسجيلاً أمينا لشعور المصريين على إختلاف طبقاتهم الإجتماعية.
ولكن هذه الفرحة التي عمت جماهير مصر وظنها الجبرتي تباشير عودة إلى العدالة وسلوك سواء السبيل، سرعان ما أصيبت بانتكاسة شديدة تحت وطأة هذا العهد من الفوضى السياسية الذي عقب جلاء الفرنسيين وامتد ما بين أعوام 1216 – 1220هـ (1801 – 1805م) وذلك لأن العثمانيين عندما عادوا إلى مصر كانت الفكرة المسيطرة على أذهانهم أنهم يغزون بلاداً جديدة، ولهم بفضل هذا الغزو أن ينهبوا ويسلبوا أرزاق المصريين.
في غضون هذه السنوات الخمس بلغ التذمر الجماهيري مداه إثر خيبة الأمل العارمة التي مني بها الشعب المصري الذي كان ينتظر العدل والإنصاف من العثمانيين المسلمين بعد جلاء الفرنسيين الملاحدة، وأعلن العلماء على لسان تلك الجماهير رفضهم للظلم أياً كان مصدره سواء أكان مصدره الفرنسيون أعداء الدين أم كان مصدره العثمانيون حماة الدين كما كانوا يدعون. وسجل الجبرتي هذا التحول في الرأي العام المصري في كتابه عجايب الآثار، وحمل فيه على الدولة العثمانية واعتبرها مسؤولة عن الشقاء الذي عانى منه المصريون، وعاد ليثني على الفرنسيين في مواضع عدة من هذا الكتاب، وبلغت موجة العداء للعثمانيين درجة جعلت علماء الأزهر يرحبون في جماد ثاني سنة 1217هـ (اكتوبر عام 1802م بمبعوث فرنسيا المسيو سباستياني Sebastiani الوزير المفوض من قبل نابليون، ويصارحونه بتمنيهم عودة الحكم الفرنسي لمصر مرة أخرى. وعلق سباستياني على هذا الإجتماع في تقريره إلى حكومته بقوله: "إنه دهش مما أبداه المشايخ من شجاعة في إعلان رغبتهم في أن يصبحوا مرة أخرى رعايا القنصل الأول".
كان الشعب المصري، بعد محنتين متتاليتين: محنة الحملة الفرنسية ثم محنة عودة العثمانيين، يفتش عن مجتمع تسوده العدالة، ولكن ما رآه الجبرتي من أعمال العثمانيين جعلته يتذكر الفرنسيين بالخير، ويذكر على لسان الفلاحين حنينهم لحكم بونابرت في مقارنته لما نزل بهم من المظالم العثمانية، لا بل إن المظالم التي أنزلها العثمانيون بالشعب المصري رفعت من مستوى الوعي الجماهيري عموماً ووعي الطبقة المثقفة على وجه الخصوص.
فالجبرتي ينقل حواراً عن المشايخ في أمر المفاضلة بين الفرنسيين والإنجليز الذين كانوا يتظاهرون بالدفاع عن المصريين بالاتفاق مع بعض المماليك وذلك في أحداث يوم الأربعاء 29 محرم 1222 ويخلصون من هذا الحوار إلى تفضيل الفريق الأول. ورد الجبرتي في تعليل هذا التفضيل يحمل مفهوماً جديداً للعدالة غير مرتبط بالدين، فالفرنسوية الذين لا دين لهم كانوا أعدل من حكام مصر والإنكليز المتحالفون مع المماليك لا يرجى الخير منهم لكونهم متعاونين مع حكام مصر الأولين وهو يدعو إلى عدم تصديق دعواهم في حماية مصر: "لا تصدقوا أقوالهم في ذلك، وإذا تملكوا البلاد لا يبقون على أحد من المسلمين وحالهم ليس كحال الفرنسوية، فالفرنسوية لا يتدينون بدين ويقولون بالحرية والتسوية أما هؤلاء الانجليز نصارى على دينهم ولا تخفى عداوة الأديان ولا يصح الالتجاء إليهم".
الجبرتي يؤيد رأيه بعدالة الفرنسيين نتيجة للمقارنات بين أعمال هؤلاء وأعمال العثمانيين، لا بل إن هذه المقارنات جعلته يعيد النظر فيما سجله من قبل في كتابه مظهر التقديس من تحامل على الفرنسيين فجاء كتابه عجايب الآثار، والذي كانت نواته مظهر التقديس بالذات، حاملاً لتعديلات شتى غير فيها موقفه من الأحداث التي مرت بمصر منذ الغزو الفرنسي حتى عام 1220هـ، وكان في هذه التعديلات جميعها مدفوعا بخيبة الأمل التي أصابته بعد عودة العثمانيين من انتشار الفوضى والاضطراب، مدركاً من جراء المقابلة بين الحكمين أن الحكم العثماني لم يكن خيراً كله، وأن الحكم الفرنسي لم يكن شراً كله، بل ربما كان الحكم الفرنسي يفضله في بعض الوجوه.
وقد لاحظ الدكتور محمود السروجي في دراسته لعجائب الآثار أن الجبرتي كان فيه أقرب إلى الموضوعية وأشد بعدا عن الهوى، لا بل إن كلاً من الكتابين يمثل تفكيراً مغايراً.والجبرتي في ما كتبه عن الفرنسيين كان رائده مظاهر العدالة التي تجلت في أعمال الفرنسيين، وإذا استثنينا ظروف الحرب والثورات، فتراه يندهش لنزاهة الفرنسيين في المعاملات اليومية، ودفعهم نقداً ثمن ما يقدم لهم من خدمات أو بضائع، ومنعهم احتكار السلع وبيع الحاجات بأضعاف أثمانها، ويذكر بإعجاب موقف السلطات الفرنسية وعدالتها في محاكمة سليمان الحلبي قاتل الجنرال كليبر، "بخلاف ما رأيناه بعد ذلك من أفعال أوباش العساكر الذين يدعون الإسلام ويزعمون أنهم مجاهدون وقتلهم الأنفس، وتجاربهم على هدم البنية الإنسانية بمجرد شهواتهم الحيوانية ".
الجبرتي شاهد عيان لما عانته الجماهير المصرية على يد العثمانيين، والإنتكاسة التي منيت بها هذه الجماهير. فالعثمانيون اعتبروا مصر دار حرب وكانت أولى فتاوى القاضي التركي ان ارض مصر جميعها للسلطان. ويصف الجبرتي أولئك الجند العثمانيين الذين عاثوا في الأرض فساداً بحجة انهم طردوا الفرنسيين فيقول في بعضهم "أنهم شر من مشى على الارض".
ويتحدث عن بعضهم الآخر وهم الأرنؤود فيقول: "إن الواحد منهم لو رجع إلى بلاده لرجع إلى حالته التي كان عليها في السابق من الخدم الممتهنة والاحتطاب في الجبل والتكسب بالصنايع الدنيئة..." ومنهم من يهاجم السيدات ويخطف ما في أيديهن من زينة، ويشترى السلع بالسعر الرسمي ويبيعها بسعر مضاعف، فإذا اشتكى القوم قيل لهم "أناس قاتلوا وجاهدوا أشهراً وأياماً وقاسوا ما قاسوه في الحرب والبرد والطل حتى طردوا عنكم الكفار وأجلوهم عن بلادكم أفلا تسعونهم في السكنى؟..
تلك صور لما آلت إليه حال الجماهير في القاهرة وسواها ولم تكن رشيد التي كانت تقاوم الانجليز عام 1222هـ - 1807م, ووصل إليه الجيش التركي بعد انتهاء القتال بمنأى عن الكوارث، فلما دخل الجيش العثماني الحماد استباح أهلها ونساءها وأموالها ومواشيها زاعماً أنها صارت دار حرب بنزول الإنكليز عليها وتملكها. ويمضي الجبرتي فيحكي ما حدث لرشيد فيقول: "وضربوا على أهلها الضرايب وطلبوا منها الأموال والكلف الشاقة، وأخذوا ما وجدوه بها من الأرز والعليق فخرج كبيرها السيد حسن كريت إلى حسن باشا وكتخدا بك وتكلم معهما وشنّع عليهما، وقال: "أما كفانا ما وقع لنا م الحروب وهدم الدور، وكيف العساكر ومساعدتهم ومحاربتنا معهم ومعكم, وما قاسيناه من التعب والسهر وإنفاق المال ونجازى منكم بعدها بهذه الأفاعيل فدعونا نخرج بعيالنا وأولادنا ولا نأخذ معنا شيئاً ونترك لكم البلدة افعلوا بها.."
وللحديث بقية
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=6223&I=170