بقلم:د. عبد المنعم سعيد
هناك شخصيات يصعب أن ترد لها طلبا ليس فقط لأنها تتمتع بالكياسة واللطف, ولكن لأنها تجعلك تشعر أن المهمة التي تطلبها منك مهمة لمصر كلها,
وبشكل من الأشكال يصبح ما تؤديه جزءا من عملية وطنية كبري. وقد كان ذلك بحق هو ما فعلته الوزيرة عائشة عبد الهادي التي لديها قدرات اتصالية فائقة مع طوائف الشعب المصري المختلفة,
سواء كانوا من الطبقة العاملة, أو أخيرا هؤلاء المغتربين المصريين في الخارج الذين يتراوح عددهم ما بين ستة وسبعة ملايين نسمة, أي شعب كامل ولكن سماته مختلفة عن كل الشعوب لأنه ينتشر في الأرض حاملا مصر في دمه, وفوق أكتافه, سواء كان في استراليا, أو في الولايات المتحدة الأمريكية. وفي العادة فإننا لا نسمع, أو نستمع, لهؤلاء إلا في لحظات محزنة, تجري فيها قصص الموتي في عرض البحر من جراء الاقتراب من السواحل الأوروبية في عمليات هجرة يكون فيها الخداع سائدا, والجريمة المنظمة مهيمنة, أو نسمع عنهم عند الشكوي من نظام الكفيل, أو أحداث التمييز العنصري, ولعل حادث الدكتورة مروة الشربيني الأخير يجعلنا نشفق تماما علي هؤلاء المصريين في الخارج.
ولكن الحال ليس كذلك تماما, وكل ما ذكرناه يخفي واقعا مختلفا من الخبرة والارتباط بالوطن, وهو مصدر هائل للسمعة الطيبة لمصر, فضلا عن تحويلات واستثمارات مصرية طائلة. وعندما دعتني الوزيرة عائشة عبد الهادي للمشاركة في مؤتمر المغتربين المصريين في الخارج, كان دوري هو إدارة الجلسة التي يتحدث فيها أستاذي الدكتور مفيد شهاب عن الأوضاع السياسية في البلاد حتي يكون مغتربو الوطن علي بينة بما يجري فيه بحلوه ومره. ولكن الجلسة لم تكن فقط حول ما سيقوله أستاذنا, فقد اختلط الامر بالاستماع إلي أقوال ومداخلات المغتربين, وفي الحقيقة كان فيها الكثير مما يسر. وأوله أن المصري لا يفقد جذوره بسرعة, وبشكل من الأشكال كان جميع الحاضرين من بلدان المعمورة المختلفة يتحدثون, كما لو كانوا في مؤتمر مصري( بكل ما في ذلك من عيوب ومآخذ الإطالة وعدم احترام الوقت!), ولكن اللغة التي جمعتهم أكثر كانت حول ما يستطيعون تقديمه لمصر, بل كان السؤال الذي يطرحونه طوال الوقت هو: ماذا تريدون منا علي وجه التحديد؟.
والواضح أنهم جميعا مهما بعدت بلدانهم يحافظون علي الصلة, ويقيمون اتصالات مستمرة, سواء مع أجهزة الإعلام المصرية أو العربة.
ولعل ذلك هو الظاهرة الجديدة في عالم الاغتراب أو الهجرة إلي الخارج, فالحقيقة هي أن مكان العمل قد تغير, ومكان الإقامة لم يعد كما كان, ولكن العقل والثقافة والهوية والجذور بقيت كما كانت. الآن فإن الاتصال لم يعد ذلك الخطاب الذي ينتظر أسابيع حتي يصل بين الأهل والجماعة في مصر, ثم بعد ذلك تثقل الأيدي, وتتثاقل الهمة, وتنقطع الصلات تدريجيا حتي تقتصر علي العزاء في الموتي, ثم بعد ذلك ينسي الجميع في الخارج والداخل أن فردا من الجماعة قد ذهب إلي مكان آخر. الآن فإن الأسر كلها تتواصل ليس بالرسائل فقط ولكن من خلال التليفون, وأخيرا بالصوت والصورة من خلال الكومبيوتر حيث توجد برامج' سكايب' وأخواتها التي تكاد تجعل المقيم في أستراليا عائشا في مصر. وفي حالة أعرفها كان الطفل' نوح' الذي ولد لأسرة مصرية في مدينة هيوستن معروفا تماما لعائلته في مصر منذ أن كان جنينا في بطن أمه حيث انتقلت صور السونار, ومن بعدها صور مولده وحركاته وكلماته الأولي حتي بات واحدا من الأسرة المصرية حتي قبل أن تطأ أقدامه أرض مصر علي الإطلاق.
وهكذا فإن التكنولوجيا غيرت حالة المواطن وتعريفه تماما, وربما كان المواطن المصري في جدة أقرب من حيث المسافة إلي أهله في الصعيد من هؤلاء الذين' هاجروا' من قبل إلي الإسكندرية, أو في المستقبل إلي سيوة في عمق الصحراء الغربية. وهل سيتغير معني المواطن سياسيا واقتصاديا وحتي اجتماعيا بناء علي هذه الصلة, وهل يتسع النظام السياسي والاقتصادي للتعامل مع مواطنين لم يتركوا مصر واقعيا وسلوكيا أبدا؟!
المسألة هي أن المواطنين المصريين في الخارج هم مواطنون, ولكن من طراز خاص أكثر تقدما, فضلا عن أنهم أكثر غني, وهم علي الأغلب أكثر قدرة علي فهم العالم الحديث بما يعيشون فيه من مؤسسات في بلاد متقدمة, أو في إطار من تكنولوجيات جديدة في بلاد أخري. كما انه لا يوجد لديه ذلك الخجل الذي كان يعتري' عواد'_ في القصة الإذاعية الشهيرة- الذي ترك بلده بعد أن باع أرضه, وكانت أقسي عقوبته أنه ترك بلده وأهله وخلانه ومشي وحيدا غريبا نادما في بلاد أخري. عواد الحديث ترك بلده, ولكنه لم يتركها, وظل علي اتصال متعدد الأشكال معها, وهو يشتري ولا يبيع, أو هو علي استعداد لشراء الأرض والمنزل والمصنع في بلاده. هو مواطن اقتصادي من الدرجة الأولي, لأنه يتمتع بقدرة كبيرة علي الحركة, وهو قادر علي الانتقال بسرعة من مكان إلي آخر, ومن مهنة إلي أخري. هنا يوجد مصري أكثر حداثة, ولديه خبرات واسعة في التنظيم,
وهو في العموم أكثر علما وقدرة علي المغامرة والمبادرة والاقتحام. وفي الصين كان لهؤلاء المغتربين نصيب كبير في النهضة الصينية التي نتحدث عنها, فقد عاد الصينيون إلي بلد يسمح لهم بالغني, وكانت الفرص كثيرة, وكانت العودة بلا حصر, ومع الذهاب والحضور انتقلت خبرات حديثة وثروات طائلة بلا حصر.
ولكن أجمل ما في المصري في بلد آخر هو تمسكه الكامل بالوحدة الوطنية, وفي المؤتمر كان المصريون المسيحيون هم الحاضرون بقوة, وعلي استعداد أن يعرضوا مشاكل المسيحيين المصريين في الداخل والخارج بحساسية فائقة, وبإدراك تام أن الوطنية المصرية أمر, وما يضيق به الإخوة الأقباط أمر آخر, وللأولي دائما السيادة المطلقة. ولكن المسألة تحتاج نظرة أخري من داخلنا, ولا أظن أن صدور قانون موحد لدور العبادة يحتاج لكل هذا الزمن, ولو كنت من الدكتور بطرس غالي والدكتور كمال أبو المجد في المجلس القومي لحقوق الإنسان لسعيت لإقامة محكمة خاصة لضحايا التمييز في الوظائف العامة, ولاشتركت في مظاهرة وطنية ضد هؤلاء الذين يهاجمون مواطنين يعبدون الله في المنازل بعد أن بعدت عنهم الكنائس.
هؤلاء جميعا, مسلمين ومسيحيين, ينشرون اسم مصر عاليا في كل مكان, ويكونون جماعات ضغط مسموعة في أكثر من بلد, وفي كل الأحوال فإنهم يحولون لمصر من الأموال ما يجعلهم علي رأس مصادر النقد الأجنبي, وفي أوقات العسر والكوارث فإنهم أول الملبين. ولكن القضية ليست الفوائد الاقتصادية أو التبرعات الخيرية, وإنما المساهمة في بناء مصر من خلال عملية مشتركة تربح منها البلد, ويسعد ويربح منها المهاجر. وللمسألة شقان: الأول هو الاستثمار وتوفير المناخ المناسب الذي يجذب هؤلاء كما يجذب غيرهم, وفي الولايات المتحدة وحدها يوجد750 ألف مصري يحصلون علي دخول قدرها25 مليار دولار, يحولون منها فعلا ما هو أكثر قليلا من المليار, لكن هذه التحويلات تحتاج أن تزيد من الولايات المتحدة وغيرها, وتصبح جزءا من عمليات استثمار واسعة النطاق. ولا يوجد ما يجذب المصري إلي مصر أكثر من المنزل والمقام الذي يساعده هو وأبناؤه علي الهجرة المتقطعة من وإلي مصر.
إن هذا الشعب من المصريين في الخارج سوف يميل دائما إلي أن يقضي أيامه وسنواته الأخيرة علي أرض مصر, ورغم كل ما تعانيه مصر من مشكلات اقتصادية فإنها لا تزال من البلدان منخفضة الأسعار, حتي إن التأمين الاجتماعي الذي يحصل عليه المصريون في الدول الغنية يجعلهم يعيشون حياة أكثر من كريمة في مصر. أما المصريون في الدول العربية فإنهم مهما طالت الغربة فحرصهم هائل علي العودة إلي مصر, وفي أثناء الأزمة الاقتصادية الراهنة ربما كان المصريون في البلدان العربية هم الذين أنقذوا مصر من الانكماش الاقتصادي حتي حافظت علي مستوي لا بأس به من استمرار النمو. فلم يكن للمحروسة أن تحقق حوالي4.5% معدلا للنمو لولا النمو الهائل في قطاع التشييد والبناء الذي استمرت معدلاته في النمو حتي وصلت إلي15%, كانت نسبة البناء العائلي فيها60% جاء معظمها من المصريين العاملين في الدول العربية, والذين عادوا نتيجة الأزمة, أو أنهم كانوا يخشون من نتائج الأزمة علي وظائفهم, ومن ثم آن لهم التحضير للعودة إلي البلاد.
المصريون في الخارج شعب مصري كامل نستطيع أن نجعله جزءا مهما من ثروة مصر الطائلة التي تحدثنا عنها مرارا بأشكال مختلفة, وهم جزء من ثروة البشر التي تضاف إلي ثروة الحجر فتجعل لها سعرا ومعني. فلا تفرطوا فيها بالغباء أو بالتعصب, أو حتي بأن تكون العلاقة معهم ذات طبيعة موسمية يأتي لها الوزراء والأمراء وأصحاب الرأي ثم يمضي الجميع كل إلي حال سبيله, وإنما الواجب أن تكون العلاقة مؤسسية تقوم علي روابط ومؤسسات وجمعيات نوعية تعقد مؤتمراتها المختلفة في ربوع مصر كلها, وساعتها ربما سوف نحصل علي المواطن المصري' العالمي' الذي يشارك في نهضة مصر أيا كان موقعه ومكانه.
amsaeed@ahram.org.eg
نفلا عن الأهرام
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=5808&I=158