المرجعية المقدسة إلى أين؟

كمال غبريال

بقلم: كمال غبريال
يطرح عنوان هذا المقال تساؤلاً وتخوفاً، من إجابة ربما لن تسر أحداً. . فالبعض يقول أن شعوبنا المغرمة بالماضي، والمتشبعة بالروح العنصرية المتعصبة والكارهة للآخر، لا وسيلة لانتشالها مما هي فيه، إلا بتركها تمضي في مشوارها إلى نهايته. . تركها تذهب إلى آخر ما تقودها إليه نزعات التخلف والكراهية والتطاحن. . لتشرب من بول البعير ما شاء لها الهوى، وتجري خلف ما تخترعه من قصص عن معجزات وأفعال خارقة لقوانين الطبيعة، تعوض بها فشلها وعزوفها عن الثقة بالعلم وامتلاك ناصيته. . يقولون أيضاً أنه لا مهرب (لا محيص!!) من أن تتحول بلادنا بالكامل إلى مستنقع للمياه الآسنة والبغضاء والدماء، حتى لا يبقى فيها موضع لقدم، ولا نسمة هواء نقية، غير محملة بأشد الفيروسات فتكاً، وهو التعلق بأهداف الماضي، والوقوع في أسر ذوي اللحى، الذين يفتون ويتحدثون باسم الإله، ويدفعوننا للتباغض والتقاتل باسم الإله، ويغيبون ويلغون عقولنا أيضاً باسم الإله.

يقول أصحاب هذه النظرية، أنه بعد هذا، وبعد أن نصل إلى قاع الهاوية التي اخترنا بكامل إرادتنا وإصرارنا السقوط فيها. . بعد هذا وليس أبداً قبله، سوف نبدأ في مراجعة أنفسنا، وفي البحث عن طريق آخر. . طريق مضاد تماماً لكل الطرق التي سبق وأن استهوتنا، وتبدأ عقولنا التي كانت قد تكلست، أو التي كنا قد أحجمنا طوال الوقت عن استخدامها، خوفاً من أن تضللنا، واكتفينا بعقول أصحاب الفضيلة والقداسة. . بعد هذا سنبدأ نشق طريقاً للخروج من بحر الظلمات ومن مقبرة الماضي، إلى العصر الحالي وقيمه وثقافته. . بعدها وعندها سيكون علينا أن نبني ما تهدم من أنفسنا أولاً، ومن مقومات حياتنا ثانياً، ونترحم على أجيال أفنت عمرها من أجل قضايا هي الخسارة ذاتها، والحماقة بعينها.

يقول البعض أيضاً أن الحل مع شعوب تصر أن ترتب حياتها في الألفية الثالثة على أساس تشريعات دينية، تعود إلى عشرات القرون الماضية، لتكون هي مرجعيتها، ومفهوم مرجعية هنا يعني أن مقياس نجاح أو فشل الدولة والأفراد، يكون بمدى تحقيقهم للتطابق بين ما يجري على أرض الواقع، وبين النصوص المقدسة التي يتمسكون بها. . يعني هذا أن إصلاح أحوال الناس وحياتهم ليس هو الهدف الأول، وإنما الهدف المقدس هو طاعة أصحاب الفضيلة والقداسة، فيما يقررون من قوانين إلهية مقدسة. . في هذه الحالة عندما تسوء أحوال الدنيا، وتتعقد وتتفاقم مشاكل الناس، جراء التمسك بالقواعد والقوانين التي لم تعد صالحة للعصر ولا لحقائق الواقع. . فقد نجد هناك من يتكرم علينا بمهرب من ورطتنا هذه، بأن يحاول تأويل النصوص القديمة، لكي يستنطقها بمفاهيم وقواعد جديدة، قريبة الشبه بدرجة أو بأخرى، بما يتحتم علينا اتباعه، حتى لا نصير محل تعجب وازدراء من العالمين، وننحدر على الدوام من سيئ إلى أسوأ.

هذا الحل أو الوضع الأخير، أشبه بمن يسير في رحلة طويلة، وقدماه مربوطتان في أحجار ثقيلة، أو في خطافات تنحشر في الثنايا طوال الطريق، فينفق الوقت لتخليص قدميه، وهو مسكون بالتردد والخوف، أن يكون تحرير قدميه ليتمكن من مواصلة المسير، هو بمثابة عصيان لله، أو كفر بدينه!!

هكذا أيضاً يحرضنا سدنة القديم والمرتزقون من ترويجه، ضد رموز الاستنارة، الذين يحاولون إخراجنا من هاوية التخلف والجمود، ويشيرون لنا إلى طرق جديدة نسلكها، فيدخل في روع العامة والدهماء أن هؤلاء الرواد أعداء الشعب وأعداء الله، وأن من يقطع رقابهم بالسيف، يثاب من الله بالجنة، فيكون ما كان من اغتيال د. فرج فودة، ومحاولة اغتيال نجيب محفوظ، ويكون ما يحدث الآن من تهديدات لسيد القمني، ولكل من يتجرأ على مخالفة رجال الله المعصومين من الخطأ، والمتحدثين باسم الله ووكلائه على الأرض!!

شاهدت أخيراً في التليفزيون تحقيق عن إلغاء مولد السيدة زينب هذا العام، خوفاً من إنفلونزا الخنازير، حين سألت المذيعة رجلاً تبدو عليه أمارات الطيبة، عن رأيه في إلغاء المولد، فكانت إجابته الحماسية الواضحة الصدق هي: "أستغني عن أبي وأمي وأولادي، ولا أستغني عن أعتاب بيت آل رسول الله"!!

أكاد أسمع من يقول أن هذا تدين ساذج ومغلوط، وأن مثل هذا الشخص يحتاج لمن يعلمه صحيح الدين.

هذا الرد صحيح بالطبع، لكن هناك إشكاليتين، أبسطهما أننا نسمع ونشاهد فتاوى وتصريحات وقرارات ممن نعتبرهم المصدر الرسمي لصحيح الدين، لا تقل في شذوذها ومفارقتها للواقع، عما تحدث به بالسليقة هذا المواطن البسيط. . فالإشكالية الثانية هي المعضلة الحقيقية، وهي ذات ما تناولناه عاليه، وهي إشكالية المرجعية. . فهذا المواطن البسيط، شأنه شأن مجلس شعب يسن قوانين وفقاً لشريعة محددة، سواء كانت مسيحية أم يهودية أم إسلامية، لا يضع الواقع ومصالح الناس نصب عينيه بالدرجة الأولى، فيكون تحقيق المصلحة هو معيار ومقياس الصواب والخطأ، لكن يكون ما يتوجه إليه تلقائياً، هو الحفاظ على الالتزام بما يتصوره تعليمات وأوامر ونواه إلهية، من يخالفها يكون مارقاً وكافراً ومهرطقاً.

من الطبيعي في هذه البيئة الثقافية، أن يعد المنادون بالعلمانية، بمعنى الارتكان إلى العلم لتحديد العلاقات المثلى لترتيب حياتنا، يعد هؤلاء ضالون، يحاولون تضليل الناس عن دينهم.

لا يشمل حديثنا بالطبع العبادات والعقائد الإيمانية، التي هي علاقة خاصة بين الفرد وربه، ولا شأن لأحد بها، ولا مسئولية إلا عليه شخصياً تجاهها. . نحن نتحدث عن ترتيب أمور حياتنا الأرضية، وعلاقات البشر فيما بينهم وبعضهم البعض. . فإذا كان "اللبيب بالإ شارة يفهم" كما نردد دوماً، فإن تخلف حياتنا وبؤسها فيه أكثر من مجرد إشارة، تصرخ فينا أن نفرق بين أمور الأ رض وأمور السماء، وأن ننتزع أمور الأرض من براثن من لا يعرفون إلا في شئون السماء، ونسلم أمور الأرض لأهل العلم، ومن يصر أو لا تكفيه تلك الإشارات، لا مفر (لا محيص!!) من أن ينحدر إلى هاوية التخلف والبؤس، ربما بعد ذلك يراجع نفسه، ويحاول إن أمكن استدراك ما فات.

Kghobrial@yahoo.com
Kamal Ghobrial
Alexandria- Egypt

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع