فرانسوا باسيلي
بقلم: فرانسوا باسيلي
مجموعة من الناس في رجل واحد:
الوصف الأكثر دقة لإنجازات القمص بولس باسيلي كتبه قداسة البابا الأنبا شنوده الثالث ونشر كمقدمة لعدد من كتب والدي. يقول فيه قداسة البابا: "الأب الموقر القمص بولس باسيلي واعظ وخطيب معروف لدى الجميع، قضى حياته كلها في الوعظ، يحمل على كتفيه خبرة نصف قرن من الزمان في هذا المجال، أستاذ بالكلية الإكليريكية، تتلمذ على يديه مئات من الخريجين والكهنة، وهو أيضًا كاتب له إنتاج وافر يربو على الأربعين كتابًا، وصحفي أصدر مجلة مار جرجس منذ أكثر من ربع قرن، وهو رجل وطني ساهم في خدمة بلدنا العزيز عن طريق عضويته في مجلس الشعب واللجنة المركزية. وفي الناحية الاجتماعية عن طريق جمعية الكرمة وخدمة المكفوفين. وله بمنبر الكنيسة علاقة طويلة المدى في القاهرة والأقاليم، ويعرفه سامعوه كخطيب مفوه له أسلوب قوي، وصوت جهوري، وسعة إطلاع في مجالات عديدة، وكثيرًا ما يذهلني نشاطه وكأنه مجموعة من الناس في رجل واحد)!
والحقيقة أن قداسة البابا قد قدم تلخيصًا بارعًا جامعًا لا يسعني هنا سوى أن أقوم بإضفاء بعض التفاصيل على إنجازات ومواقف كل واحد من مجموعة الناس هذه التي وجدها قداسة البابا مجتمعة في أبونا بولس، وبالتحديد سأعرض بالتفصيل لأربع رجال هم: رجل الدين، ورجل الوطن، ورجل الفكر، ورجل الإنسانية.
*رجل الدين:
معظم الناس لا يعرفون أن أبونا بولس باسيلي الذي أحب الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بكل قلبه وعقله وحياته نشأ في عائلة قبطية بروتستانتية، وكان والده –جدي– قسيسًا بروتستانتيًا. وظل جميع إخوته من الرجال والنساء –أعمامي وعماتي– على المذهب البروتستانتي طيلة حياتهم، وقد تحول والدي إلى الأرثوذكسية في شبابه بعد تلمذته على يد أستاذه وأبيه الروحي المصلح القبطي الكبير حبيب جرجس.
ومن الذكريات الجميلة في طفولتي وشبابي تلك المناقشات الحادة والطويلة الفكرية والعائلية معًا التي كان يدخل فيها والدي مع إخوته وأخواته على موائد الطعام في الزيارات الأسبوعية للعائلة هم يقولون أن الإيمان والخلاص هو كل شيء، وهو يقول لهم "إيمان بلا أعمال ميت".
هم يقولون معموديتنا بالرش فعالة. وهو يقول: لابد من أن ندفن في الماء تمامًا لكي يتم العماد، وهكذا نشأت وقد انطبع في ذهني كطفل إمكانية أن يختلف الناس على معتقدات وأفكار كثيرة ويظلون عائلة واحدة، أحباء وأصدقاء. ولم يكن لأحد أن يسمح أن يؤثر الخلاف العقائدي في وشائج المحبة الأسرية القوية. ولعل هذا كان البذرة التي أثمرت موقفي القوي الحالي من قبول الآخر المختلف عنى في كل شيء سواء في الدين أو الجنس أو الوطن أو المذهب خاصة أن معظم هذه يولد الناس عليها بلا خيار منهم.
*الوعظ والخطابة:
ظهرت على الشاب فؤاد أفندي باسيلي –اسمه قبل الرسامة الكهنوتية– مواهب مبكرة في القيادة والخطابة، وحينما أنشأ أستاذه حبيب جرجس الكلية الإكليريكية التحق بها وتخرج ضمن أول دفعة من خريجيها، وعينه حبيب جرجس أستاذا لكرسي الوعظ بالكلية وذاع صيت الكلية الإكليريكية بسرعة –وكانت أيامها في حي "مهمشة" بالقاهرة– والتحق بها بعد ذلك الجيل الأول من قادة الكنيسة اليوم ومنهم بالطبع "نظير جيد" أي قداسة البابا شنوده الثالث، والواقع أن كل من تخرج من الكلية الإكليريكية منذ نشأة كرسي الوعظ بها وحتى تقاعد والدي لبلوغه سن الستين عام 1976 لابد أنه تتلمذ في مادة الوعظ على يدي أبونا بولس باسيلي الذي عين أستاذًا للوعظ عام 1938.
وكان فؤاد باسيلي يصحبني معه في الكثير من سفرياته حيث ذاع صيته كواعظ مؤثر فكان يدعى من الكنائس والجمعيات في كافة أنحاء مصر، وكانت عظاته مزيجًا مدهشًا من القصص الدينية والعبر الأخلاقية والاستشهادات الأدبية والفلسفية والأشعار العربية والنوادر والطرائف بل وحتى "النكت" المصرية
ولم يكن في مصر وقتها من يعظ بهذا الأسلوب ولا بهذا الذخر الديني والثقافي ولا بهذا الأسلوب القوي الجهوري الذي يجبر سامعه على التفرغ الوجداني والعقلي لما يقال. وأذكر أنه أخذني مرة لحضور مولد ميت دمسيس وكان من أشهر الموالد القبطية في مصر وقتها وبعد إلقاء موعظة في الجموع الحاشدة هناك ركبنا مركبًا صغيرًا أو "معدية" للذهاب إلى الطرف الآخر من "نهر النيل" ولدهشتي رأينا مراكب أخرى يأتي منها الطبل والزمر وترقص فيها "الغوازي". وعاد فؤاد باسيلي يومها ليبدأ في مجلة مار جرجس سلسلة مقالات نارية تطالب بإصلاح الموالد الدينية وتنقيتها مما لا يمت للدين بصلة، وكان بمجلة مار جرجس باب دائم بعنوان "حراب مار جرجس" مخصصًا لحملات ضد الخرافات والانحرافات.
واصطحبني معه مرة أخرى لحضور واعظ قديم يكبره سنا هو الأستاذ عياد عياد، وكان هو أيضًا ذائع الصيت كواعظ متمكن، ومرة ثالثة أذكر أنه أخذني معه لحضور اجتماع في قاعة للإخوة البروتستانت، وفي وسط الاجتماع إذا ببعض الحاضرين ينتفض من على كراسيهم ليرطنوا بكلمات غريبة لا تعني شيئًا ولا تمت لأية لغة، وسمعت والدي بعدها في جلسة مع آخرين يبدي اعتراضه على هذه التصرفات وعدم اعترافه بها، وعرفت بعد ذلك أن بعض الجماعات البروتستانتية تؤمن بظاهرة "التكلم بالألسن". وتكونت في ذهني منذ ذلك الوقت حساسية شديدة ضد كافة مظاهر الخرافة التي يقوم البعض –بحسن نية كاملة– بإقحامها على العبادات الدينية والإيمان الديني –وهي ظاهرة موجودة لدى بعض المؤمنين في كافة المذاهب والأديان، إذ هي ظاهرة إنسانية في المقام الأول لها علاقة بمستوى التعليم –أو مستوى الجهل– السائد في المجتمع.
وبعد سنوات من الوعظ الديني كواعظ ثابت في كنيسة مار جرجس بالجيوشي بشبرا، قام البابا كيرلس السادس برسامة فؤاد باسيلي كاهنًا على نفس الكنيسة باسم القس بولس باسيلي عام 1966 فبدأ بذلك مرحلة جديدة من الخدمة الدينية والرعاية الكهنوتية، تنقل فيها أبونا بولس من كنيسة مار جرجس إلى كنيسة العذراء بمسرة ثم إلى كنيسة العذراء بالوجوه وأخيرًا إلى كنيسة الأنبا انطونيوس أيضًا بشبرا.
وأبونا بولس يعشق شبرا بكل ما فيها ومن فيها، وعندما كان يزورني في نيويورك ونأخذه لزيارة أجمل الأماكن في أنحاء أمريكا مثل مدينة واشنطن العاصمة أو شلالات نياجرا، كنت كثيرًا ما أراه سارحًا ببصره فأسأله فيما تفكر يا أبونا؟ فيقول في شبرا! فنضحك ونصيح معترضين: معقول؟ فيقول كلمته الشهيرة: "عمار يا شبرا"!.
وأذكر أنه في طفولتنا أنا وأشقائي سمير وفريد كنا نجد الكثير من أصدقائنا يتركون شبرا مع عائلاتهم إلى أحياء أكثر "وجاهة" مثل مصر الجديدة أو الزمالك أو المهندسين، وكنّا نطلب من أبونا أن نفعل مثلهم ونترك شبرا، فينظر إلينا في عتاب شديد ويقول: كيف أفعل ذلك؟ إن شبرا هي مكاني وأهلي وأحبائي ولن أتركها أبداً. يقول هذا وهو الذي سافر إلى روسيا وبولندا في الشرق، وأمريكا وكندا في الغرب، ولبنان والقدس والسودان في الشرق الأوسط، وفعل ذلك في الخمسينات إلى السبعينات عندما لم يكن السفر متاحًا كما هو الآن.. لكنه لا يخلص إلا لشبرا. وإلا لمصر.
ومن إنجازاته كرجل دين إصداره لأول مؤلفاته كتاب "حياة موسى" عام 1939 وكان عمره ستة وعشرون عامًا –وهو كتاب قال عنه حبيب جرجس: "هذا ليس كتابًا يا فؤاد، هذه رسالة دكتوراة"!. وأسس دار النشر القبطية عام 1948، وفي عام 1954 أسس الإتحاد الإكليريكي العام الذي تطور فيما بعد إلى "رابطة خريجي الإكليريكية"، وفي عام 1969 عين مشرفًا عامًا لإذاعة صوت الإنجيل اللبنانية بالقاهرة، وفي نفس العام أوفده البابا كيرلس السادس مع وفد من الكهنة إلى روما لاستلام رفات القديس مار مرقس وإعادتها لمصر، كما أن مؤلفاته تتضمن سلسلة كاملة باسم "المواعظ النموذجية" هي مرجع فريد يتضمن عظات كاملة متنوعة لكل يوم صلاة من أيام السنة، ولكل مناسبة دينية. وهو مرجع ما يزال الوعاظ والكهنة ينهلون من نبعه إلى اليوم ومازال مرجعًا بلا مثيل حتى اليوم. وفي عام 1971 منحه بابا روما ميدالية القديس بطرس التذكارية، وفي نفس العام انتخب عضوا بمجلس الشعب المصري كأول (وآخر) كاهن قبطي يدخل البرلمان بالانتخاب الحر.
ولا شك أن الامتحان الأعظم الذي واجه أبونا بولس كرجل دين كان ذلك الموقف الذي أودى به إلى سجن طره عام 1981 ليقضي به حوالي تسعة أشهر، ففي نهايات السبعينيات كان الشيخ الشعراوي في بعض حلقاته التلفزيونية يتعرض بتهكم للكتاب المقدس والمؤمنين به، متهما الإنجيل بالتحريف والمسيحيين الذين يؤمنون به بالكفر، وكانت الجماعات الإسلامية التي أطلقها نظام الرئيس السادات على المجتمع المصري قد بدأت تبذر بذور الكراهية والتكفير وهدر الدم ضد الأقباط، بغطاء كامل من نظام السادات الذي مكنها من السيطرة على الجامعات والنقابات والوزارات والأحياء الشعبية والوجدان الشعبي المصري لدى المسلمين سيطرة مازلنا نعاني من آثارها المدمرة حتى اليوم. وكان يمكن لأبونا بولس ألا يرد على الشيخ الشعراوي وكان يمكنه ألا يعرض مكانته لأي ضرر، وكان وقتها قد دخل وخرج من مجلس الشعب كعضو منتخب عن دائرة شبرا (من 1971 – 1975) وكان حائزًا على عدة جوائز وأوسمة منها قلادة من سيدة مصر الأولى جيهان السادات لإنجازاته الاجتماعية كما كان يتقلد عددا من المناصب الشرفية والقيادية لمصر والتي لاشك كان يعرف أنه يمكن أن تهتز أو تضيع كلها إذا ما فتح فمه وتكلم.
ولكن هذه هي الأوقات التي تظهر فيها معادن الرجال الحقيقية، ونجد أن أبونا بولس باسيلي بعد أن رُفض طلبه للرد على الشعراوي في التلفزيون قام بتسجيل رده كاملاً على ثلاث شرائط كاسيت راح الآلاف يتلهفون عليها بعد ذلك وما تزال موجودة لدى الكثيرين، كما قامت بعض مواقع الانترنت بوضعها عليها. واللافت في رد أبونا بولس على الشيخ الشعراوي هو أن ردوده كانت كاملة تفند اتهامات وتهجمات الشعراوي ضد المسيحية وضد الإنجيل كلمة كلمة، وأنها كانت ردودا قوية واضحة شجاعة بصوته الجهوري، ولكنها في نفس الوقت كانت ردودًا مهذبة، لا تنزلق إلى مستنقع رد الإهانة بمثلها ولم تنزلق إلى التهجم أو التهكم على الدين الإسلامي أو مقدساته أو رسوله، وإنما كان الرد عقلانيًا موضوعيًا محافظًا على أدب الحوار وعلى وحدة مصر الوطنية التي لم يهتم بها الشيخ الشعراوي في تهجمه على معتقدات الأقباط وكتابهم المقدس، فجاء الرد قوياً دون أن تفقده القوة أدبه، ومؤدبًا دون أن ينتقص الأدب من قوته وجرأته. ولعل هذا يكون مثالاً للكثيرين في يومنا هذا الذي نرى ونسمع فيه على صفحات الانترنت تبادلاً مهينًا للشتائم والإهانات لمعتقدات ومقدسات الآخرين مسلمين ومسيحيين، في سقوط مؤسف للعلاقة بين أبناء الوطن الواحد، في عصر صار المجتمع المصري فيه مجتمعًا دينيًا متطرفًا ومتهوسًا.
واقتيد أبونا بولس باسيلي إلى السجن وألقوا به على الأسمنت في زنزانة صغيرة بلا نوافذ ولا أثاث سوى حفرة في الركن، وذلك ضمن قرارات السادات الهوجاء في سبتمبر 1981، وكان أبونا من آخر من أفرج عنهم بعد استلام الرئيس مبارك للسلطة وبعد الإفراج عن معظم المسجونين الآخرين. وقد وصف أبونا بولس تجربته في السجن في عدد من كتبه ولخصتها في مقال مستقل.
فماذا فعل بعد خروجه من السجن؟ أصدر كتابين أحدهما هو "الأقباط وطنية وتاريخ" والآخر هو: "أنت أخي، وأنا أحبك". وفي كل هذه المراحل والإنجازات يضرب لنا أبونا بولس باسيلي المثال لما يجب أن يكون عليه رجل الدين المسيحي الحقيقي في هذا العصر، وفي كل عصر.
وفي المقال القادم أتحدث عن بولس باسيلي رجل الوطن، ورجل الفكر ورجل الإنسانية.
لقراءة الجزء الأول من هذا المقال
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=5410&I=147