سحر غريب
بقلم: سحر غريب
على جدران المقابر الفرعونية كان تصوير الندابات موضة العصر فكانت الندابة مهنة شريفة تأخذ فيها العاملة المحترفة مقابلاً على جعل المآتم مأتماً حقيقاً يطول رقبة المتوفى الذي يبكيه اللي جاى واللي رايح وتتكلم عن مآثره النساء، حتى لا يموت الميت في طيس وكانت تلك المهنة مهنة شريفة مُعترف بها بشدة في ذلك الوقت، وكان لها مؤهلات فهي ليست مهنة لقيطة بل مهنة متوارثة تستطيع من تعمل بها إلقاء أبيات شعر في المتوفي تثير الدموع المُتحجرة، وتوالت العصور وتوالت الأيام واختفت المهن وعفا على بعضها الزمان بستائر النسيان ولكن مهنة الندابة ظلت تجلجل وتصول وتجول فى مصرإلى يومنا هذا، وقد قامت كل واحدة في كل عائلة بتعلم مهنة الندابة على أصولها حتى يتم الاستعانة بها لعمل حس لجنازات بقية العائلة، فكانت ياسبعى ياجملى ياحنين، ياغالى ياطيب من أناشيد الوداع الجنائزية للندابات، وفى القرن الواحد والعشرون توقعت بعقلي القاصر أن تكون مهنة الندابة قد اختفت ليحل محلها البكاء الحقيقي النابع من القلب والذي يكون بلا صوت في معظم الأحيان، ولكن يبدوا أننا مازلنا فى حاجة إليها.
وفى أحد الأيام داخل احد شوارع شبرا المحروسة جلسنا في السيارة منتظرين لصديق كنا قد اتفقنا معه على الخروج والسفر الداخلي القريب لمدينة القناطر الخيرية، وقد طال انتظارنا، ماعلينا وفي أثناء وقوفنا فوجئنا بمن تهجم على شباك السيارة لاصقة حنجرتها الجهورية في أذني المسكينة قائلة: يالهوي يااخويا ياللي مت صغير يااخويا ياللي مالحقتش تتهنى بالمعاش، أخويا ماااات ياهوه، أخويا مات ياست.
طبعاً اتنطرت مفزوعة ناحية زوجي، فباغتتنى السيدة المنتحبة بنظرة خالية من الدموع كادت تحرقني في مكاني مخلفة ورائي الرماد مستنكرة ومعاتبة إياي من خلال نظرتها على قلقي منها وخضتى الغير مبررة من صوتها العالى، أليس من ابسط حقوق الإنسانية المُعذبة أن اترك السيارة وأجرى ورائها لكي أجاملها في مصابها، وأرقع بالصوت الحيانى مجاملة لها وهى الأخت الحنون الحزينة على فراق أخيها، المهم رمقتني بنظرتها تلك ثم أكملت طريقها وابتعدت لتعطيني مجالاً أوسع لرؤيتها كاملة بكل تفاصيلها الدقيقة، فهي امرأة في العقد الرابع من العمر تتشح بالسواد تلبس طرحة سوداء على رأسها، مربوطة من الأمام على شكل فيونكة وفي يديها تمسك بطرحة سوداء أخرى تستخدمها في الولولة المحترفة، ابتعدت أكثر لأفاجئ بقدميها حافيتان، على مايبدوا قد نسيت نعليها في البيت فقد كانت ملهوفة لترى من سيجاملها في مصابها لترد له الجميل حين يحين الأذان، لتفاجأ بي وبقلة ذوقي معها، وكانت تقوم بنفس الطقس الذي اتبعته معى لتوصيل الولولة دليفري إلى الجميع بدون انتظار، أسرع دليفري فيكى يا مصر عن حق وحقيقى، ويبدوا أن المتوفى كان على قده فلم تقم أسرته بتأجير سيارة بميكروفون ليعلنوا عن حالة الوفاة للجميع، واكتفوا بتلك السيدة الحزينة بلا نقطة من الدموع.
http://www.copts-united.com/article.php?A=5067&I=137