بقلم: قداسة البابا شنودة الثالث
الإنسان الصالح يحرص علي ان يكون مدققا في كل تصرفاته, في علاقته مع الله ومع الناس ومع نفسه. ويتدرب علي ذلك, حتي يصبح التدقيق جزءا من حياته ومن طباعه. والانسان المدقق لايكون تدقيقه فقط أمام الناس, إنما حتي حينما يكون وحده في غرفته الخاصة, اقول هذا لأن التدقيق في التصرف قد يكون سهلا نوعا ما في حضرة الناس. لأننا بطبيعتنا لانحب ان ينتقدنا الناس, ونخشي ان ننكشف امامهم, وتظهر أمامهم عيوبنا وأخطاؤنا. ولهذا فإن المقياس الحقيقي لتدقيقنا يظهر حينما نكون وحدنا لايبصرنا احد, وفي هذه الحالة يبعد التدقيق تماما عن الرياء.
إن الإنسان المستقيم يصبح التدقيق تلقائيا عنده, كجزء من طبعه. وليس مجرد محاولة منه, أو مجرد تدريب. أو هو قد تعود علي ان يكون مدققا في كل شيء بدوافع داخلية فيه تمثل بعضا من مبادئه وقيمه. وهو يحب دائما ان يكون بلا لوم امام الله الذي يراه, وامام الملائكة الذين يرونه, وأمام أرواح الأبرار في العالم الآخر, فهل انت ياأخي مدقق بهذا المقياس, بغض النظر عن أحكام الناس؟.
التدقيق هو احتراس من أقل خطأ. أو هو سعي نحو أكمل وضع ممكن, بغير تراخ او إهمال, وفي بعد عن التبريرات التي تدافع عن بعض الاخطاء. إنه خطوة نحو الكمال... فالذي يكون مدققا محترسا من الصغائر, من الصعب عليه ان يقع في الكبائر. والذي يحترس بكل جهده من الوقوع في الخطيئة بالفكر, ليس من السهل عليه ان يقع في الخطيئة بالعمل. ولكن علي الانسان ان يحترس في تدقيقه, حتي لايقع في التزمت او في الوسوسة, او في الحرفية. ففي التزمت والوسوسة, يظن المتزمت وجود الخطأ حيث لايوجد خطأ, أو انه يضخم من قيمة الأخطاء فوق حقيقتها, أو تحاربه عقدة الإثم بدون سبب معقول, او هو ـ في سبيل الدفاع عن الحق ـ يصل الي التطرف الذي يؤثم تصرفات سليمة. مثل اولئك الذين يحملون الناس أحمالا ثقيلة عثرة الحمل. ويغلقون ملكوت السماوات أمام الناس. فلا يدخلون هم ولايدعون الداخلين يدخلون!! إنما التدقيق ـ بمعناه الحقيقي السليم ـ هو الوضوح الذي لايشوبه خطأ من اي نوع, ما بين التسيب والتزمت. إنه يذكرنا بميزان الصيدلي: بحيث كل مادة تدخل في تركيب الدواء. إن زادت عن الحد فإنها تضر, وإن نقصت تضر ايضا. فالمدقق إذن له مبادئ يحافظ عليها, بحيث لايبالغ فيها ولايهمل.
الإنسان المدقق يكون حريصا علي وقته باعتباره جزءا من حياته. يستخدم الوقت بطريقة سليمة لايضيع شيئا منه فيما يندم عليه أو فيما لايستفيد منه. وهو يوزع وقته توزيعا عادلا علي جميع مسئولياته. وكما يكون مدققا من جهة وقته, يكون ايضا مدققا من جهة وقت غيره. أقول هذا لان البعض قد يعتبر وقت غيره رخيصا عنده فيزور الغير في موعد غير مناسب, أو يطيل الزيارة, او يطيل الكلام,بحيث يشغله مضيعا وقته! بينما هذا الآخر لايعرف في خجله ان يهرب من هذا المتطفل.
إن الشخص المدقق يحترم حياته ووقته, وأيضا حياة الآخرين ووقتهم. كما انه لايسمح لنفسه ان يضيع وقته في التوافه, أو يعطي اية مشغولية وقتا فوق ماتستحق.
والإنسان المدقق يكون مدققا في كلامه. فهو يزن كل كلمة قبل ان يقولها, سواء من جهة معني الكلمة او قصدها, او مناسبتها للمجال او للسامعين. اما الذي يتكلم ثم يندم علي قوله, فهو غير مدقق في الحديث. وكذلك الذي يتكلم ثم يعاتبونه علي معني كلامه, فيقول ما كنت أقصد ذلك. فالانسان المدقق يقول مايقصد, ويقصد مايقول.
وايضا الذي يتكلم فيجرح شعور غيره بغير حكمة, هو انسان غير مدقق.
ان السرعة في التكلم, هي من الاسباب التي تؤدي الي عدم التدقيق. سواء السرعة في إبداء الرأي, او السرعة في الحكم علي الأخرين, او السرعة في الاستسلام للغضب. كل ذلك يعرض الانسان للخطأ, فلا يكون مدققا في كلامه. اما الذي يتباطأ ويزن الكلمة قبل ان يقولها, فإنه يكون اكثر تدقيقا. لانه يتروي في تفكير متزن يمكنه ان يتخير الألفاظ المناسبة ويحسب ردود فعلها. فلا تحسب عليه كلمة يقولها.
وكما يدقق الانسان في كلامه, ينبغي ان يدقق في مزاحه وضحكه. بحيث إنه في دعاباته, لايخرج عن حدود اللياقة والأدب. كما لايجوز ان تتحول دعابته الي لون من التهكم علي الغير او الاستهزاء به. او جعله مادة للسخرية. ولايجوز له في الدعابة ان يجرح شعور غيره. فمن حق كل انسان ان يضحك مع الناس, لا ان يضحك علي الناس. وليس له ان يهين غيره ولو في مجال المزاح, ولو عن غير قصد.
والانسان المدقق يكون مدققا ايضا في نقده وفي عتابه. فالنقد السليم ليس هو التجريح بالغير. إنما هو لون من التحليل, تذكر فيه النواحي الطيبة, اما المآخذ فتذكر بطريقة موضوعية غير شخصية, وبأسلوب غير هدام. نلاحظ ايضا ان كثيرين يستخدمون كلمة الصراحة في غير معناهاالدقيق. فتتحول الصراحة الي مهاجمة وتجريح, ولاتأتي بنتيجة. والانسان المدقق لايكون قاسيا حينما يعاتب غيره, فليس من الحكمة ان يحطم غيره بالعتاب او الصراحة, فيخسره.
الإنسان المدقق تظهر دقته ايضا في كل عمله ومسئولياته. فالدقة في العمل تقود الي النجاح والاتقان والي احترام الناس وثقتهم. والانسان المدقق لايحتاج الي من يراجعه في عمله. فهو بذاته يبعد عن كل خطأ. وتكون دقته في العمل نموذجا لغيره. وإن أخطأ لسبب ما لايحاول ان يبرر ذلك بأعذار..
إن كثيرين يدققون في محاسبة غيرهم, ولايدققون في محاسبة أنفسهم. والانسان المدقق يدقق ايضا في حياته الروحية, في كل تفاصيل علاقته مع الله. ويكون مدققا في سلوكه بحيث لايخطأ. كما يدقق كثيرا في محاسبته لنفسه.
نقلا عن جريدة الأهرام
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=4531&I=122