الإنسانيون3-4

محمود كرم

بقلم/محمود كرم
الساعون إلى صناعة الحياة المفعمة بالفتنة والدهشة والجمال والألق والبهجة على امتداد الأزمنة ، هم في الأساس إنسانيون في المعنى العميق للإنسانية الخلاقة ، تجمعهم قيم الجمال والإبداع والتطور ، ويجمعهم أبداً ميراث الإنسانية في الأخلاق والحرية والحب والسعادة ، وتدفع بهم إلى اجتراح كل ذلك قيم الحرية الإنسانية ، الحرية التي كانت ولم تزل الأصل الجوهري والفلسفي في تقدم الفكر الإنساني الإبداعي ..

لقد أسَّسَ الإنسانيون للحرية طريقاً يصل بالإنسان إلى مستويات تتخلق بوعي الذات ، تتمثل في فكره وتطلعاته وتعالقاته وأنماط حياته ، ولم  تكن الحرية إلا انعكاساً واعياً وعقلانياً لمدى إدراكه لحقيقة أن يكون نفسه ، متماهياً بتصميم وتوثب خلاق ومبدع مع ما يريد أن يكون من خلال ذاته ، ومنسجماً مع ما يفكر ويتمنى ويتطلع أن يكون ، فالإنساني يرى في الحرية مناخاً ، يستدعيه من أعماقهِ ويصنعه في ذاته ، ويستوطنه عميقاً ، مُعززاً به إدراكه المتفرد لماهية وجوده ، ومستنطقاً به جمالاً داخلياً يجده يتجذر في كيانه وعقله وقراره ووعيه وضميره ..

وكان أن دعا الإنسانيون إلى تبني الحرية فكراً أصيلاً ، يوجده الإنسان في كيانه مطلباً ذاتياً ومنطلقاً ثقافياً ، محققاً به وجوده الذاتي الفعلي ، يعكس في أصله الجوهري جمالية ذاته المفكرة والواعية والمبدعة والحرة ، فالأصل أن يكون الإنسان إنساناً حراً ، لا تلتهمه الأدلجات ، ولا تستعبده الأديان ، ولا تتغول عليهِ المعتقدات ، ولا تستبيح وجوده النظريات والشعارات ، ولا تؤطره المرجعيات الثقافية السائدة ، ولا تستبد به الأوهام ، لأنه يعي اشتراطات حريته الداخلية ، الحرية المسؤولة التي تعني في أحد جوانبها الأساسية الوعي بالذات ، مدركاً  بها قدراته الذاتية التواصلية في إنجاز ما يريد ، وفي إبداع ما يحققه على مستويات الفعل الأخلاقي والثقافي والمعرفي ..

وانطلاقاً من هذه التأسيسيّة الذاتية الفكرية الواعية للحرية في الذات الإنسانية ، يسعى الإنسانيون نحو التأكيد على قيم الحرية ، كأساس جوهري لصناعة الحياة الواقعية ، الملهمة للإبداع والتألق ، والدافعة للإنجاز والتغيير والتطور ، ومفاهيم الحرية في الفكر الإنساني تعني أن يتمتع الإنسان بدايةً بحرية الاختيار ، وتعتبر هذه الحرية من أقدس حقوقه الإنسانية في الحياة ، بمعنى أن يكون حراً في اختيار ما يناسبه من طريقة في الحياة ، واختيار الأسلوب الذي يريد ، واختيار النمط الحياتي الذي يجد نفسه فيه ، ولا يعني ذلك تشريعاً للهمجية أو العشوائية أو  العنف أو العدائية في السلوك والفكر ، فحرية الاختيار لا تعني تبريراً للفوضى والتخريب والعبث واللاأخلاق ، بل تعني أساساً حراً ينطلق منه الإنسان نحو آفاق يجترحها بمحض إرادته ورغبته وميوله ، وفي مقابل ذلك يؤمن الإنسانيون بالتسامح مع اختيارات الآخرين لأنماطهم الحياتية ، ولكن لا يعني ذلك في الوقت نفسه تأييدها أو الدعوة إليها ، فحرية الاختيار هي أيضاً مقدار ما يبديه الإنسان من تسامح مع اختيارات الآخرين ، وليس بالضرروة الاتفاق عليها أو التوافق معها ، أو تأييدها أو الانحياز إليها ..

وإلى ذلك نجد هناك حرية التعبير والفكر في فكر الإنسانيين ، حيث تعتبر تجسيداً فعلياً لجوهر الوجود الإنساني الأعلى ، إنها نزعة الإنسان الأبدية في التأكيد على وجوده الذاتي الإنتاجي في ميادين المعرفة والعلم والفن والثقافة والأدب ، إنه الإنسان الذي يريد أن يقول كثيراً وينتجُ إبداعاً ويعبّرُ عميقاً عن مكنونات ذاته الحرة ، ولا يستطيع أن يجد نفسه واقعاً تحت القمع والاستلاب والقهر ، إنه يسعى حثيثاً ، حيث الحرية  في التعبير والفكر هي استجلاء فاتن لحقه الإنساني في التجربة والطموح والإنجاز والتغيير ، ومؤمناً في الوقت نفسه بالتعددية الثقافية والفكرية ، لأنه يجدها أساساً تدعو إليه حرية التعبير والفكر ، فالحياة  في نظر الإنسانيين لا يمكن حصرها في اتجاه أحادي ، بل تعني في الأصل التنوع والاختلاف وتقوم على ذلك ، والتسامح مع ما تظهره الحياة من تنوع واختلاف ، ولذلك تبقى مهمة الإنساني أن يدافع عن حق الإنسان في الاختلاف والتنوع ، وحقه في حرية التعبير والفكر ، ولكن في مقابل ذلك يبقى الإنساني مناهضاً للثقافات الهادمة للذات والقامعة للعقل والرافضة للإبداع ، ومناهضاً صلباً للثقافات العدائية والتسلطية والإرهابية والاستلابية والقمعية والعنصرية ..

ويعمل الإنسانيون دائماً على تبني الحداثة الفكرية التي تعني الامتزاج الثقافي الكوني ، انطلاقاً جوهرياً من حق الإنسان في حرية التعبير والفكر ، فبقدر ما يكون الإنسان حراً في التعبير والرأي والفكر ، يكون مساهماً فعالاً في ترسيخ قيم الثقافة الكونية ، إنه يجد نفسه في الآخر ، الآخر الذي يشاركه ويتشارك معه في صناعة الحياة الحرة والنظيفة والفاتنة ..

ومن الحريات التي يبقى الإنسانيون يدافعون عنها تأكيداً وتثبيتاً لحق الإنسان في الفعل الحياتي والوجودي والابتكاري ، هي حرية التفكير التساؤلي ، إنها بعبارة أخرى الاستخدام الحر للعقل كما عبر عنها الفيلسوف الإنساني كانط في الدفاع عن حق الإنسان الأصيل في التفكير باستخدام عقله الحر ، والذي يعني في الأساس استخداماً يستنهض فيه قدراته الذاتية للتخلص من هيمنة الوصايات الثقافية المسبقة والذهنيات الجاهزة والمنقولات المعلبة واليقينيات الاطلاقية والمألوفات التفسيرية السائدة ، ويؤكد الإنسانيون في الاتجاه نفسه على الواقعية التفكيرية سبيلاً نقدياً وتساؤلياً للتحرر من ثقافة الغيبيات والماورائيات ، تلك التي تسلب العقل الإنساني حريته وحيويته وفاعليته واندفاعاته ومغامراته في البحث والتفكير والسؤال والنقد والتقصي ، إنها الحرية التي تدفع بالإنساني إلى رفض الأدلجة والثقافة الغيبية المعيقة للتفكير الحر وحرية التفكير ، إنها الحرية التي تعلي من شأن الذات المفكرة احتراماً لانتهاجها قانون التفكير والتساؤل والنقد ..

ويؤمن الإنسانيون دائماً بأن الإنسان عليه أن يكون صانعاً لكيانه ووجوده وفعله الثقافي والإبداعي ، ولا يتوفر ذلك إلا من خلال التأسيس لحرية الإرادة ، والتي تعني في الأساس مواجهة كافة أشكال القهر والاستلاب والجبر ، وتعني التحرر من الاعتقادات والهيمنات الأيديولوجية الدينية  والقومية والماضوية ، وتعني أيضاً حق الإنسان الذاتي في صناعة قراره ، إنه الحق الذي يخلقه إنساناً حراً في إرادته ، مستوعباً لفعله الإرادي الذاتي ، إنه في هذه الحالة ينتصر لعقله الإرادي ولإرادته العاقلة في تحقيق رغباته الذاتية ، وصناعة تفكيره الحر ، دفاعاً عن حقه الإنساني في الحرية ..

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع