بين بيان التصحيح وأحداث المدينة.. مفارقات وخطاب مشترك

نذير الماجد

بقلم: نذير الماجد
قبل أشهر قليلة وتحديداًَ في نوفمبر/ تشرين الثاني أقدمت مجموعة من الكتاب والنشطاء على مجابهة ساخنة أدت إلى احداث إهتزازات في مياه  الجمود والتمامية الفكرية المستفحلة في واقعنا المثقل بتركة طائفية مذهبية مقترنة بنرجسية عالية، وإن كان هذا التوصيف لا يخلو من المبالغة فعلى الأقل هكذا كان الطموح، ومن الطبيعي أن لا تكون تلقيات هذه المجابهة إيجابية، لأن أي ترحيب أو ايجابية في التعاطي مع هذه المشاكسة لم يكن ليخطر على بال أحد بمن فيهم هؤلاء الكتاب والناشطين أنفسهم ولكن أن تكون التلقيات عبارة عن ردود أفعال لا تخلو من شراسة تصل حد الرجم والتصفية المعنوية وكل تبعات اللعن والطرد من رحمة الجماعة فإن ذلك يستدعي وقفة تأمل لتجلية الواقع وكشف الأقنعة التي يختبئ خلفها كل فكر أرثوذكسي.

ما الفرق بين مفردات كاللعن أو التضليل أو التكفير أو التشهير والنفي من حظيرة الجماعة ما دامت كلها تأتي في سياق الإقصاء والذي يكشف عن إستبداد جاثم في الوعي قبل أن يتحول إلى ممارسة تتوالد باستمرار، ففي بيئة تختنق فيها كل دعوة للتسامح والتعددية يصبح الإستبداد حلقة مفرغة لا فكاك منها ولا خلاص، لأنها بيئة تفرخ الإستبداد والهيمنة السلطوية للإعتقادات السائدة والتي تهمش كل صيحة يشتم منها رائحة التجديد، الفكر هنا مغلق دوغمائي حتى وإن فرض الواقع جملة تغيرات تستدعي تغيراًَ وتحولاًَ مماثلاًَ في الفكر والقناعة فإن بيئة كهذه يعشش فيها الإستبداد وأحادية الرأي ستقوض أي محاولة مشروعة للتغيير.

إن أي تصحيح غير جذري لا يستهدف البنى الفكرية المغذية لبيئة إجتماعية كهذه سيكون مصيره الإخفاق والفشل، كل محاولة إصلاحية تكتفي بإحداث بعض الرتوش هنا أو هناك عبر تخريجات أو مراوغات تدور في فلك السياسي دون الفكري والإجتماعي لن تكون إلا بمثابة مسكنات آنية سرعان ما ينتهي مفعولها لنعود لنفس الإشكالية ونعود لنفس الإستبداد بعد أن إتخذ لبوساًَ وأقنعة جديدة.

 من هنا سندرك مدى التخبط الذي تقع في أتونه بعض الإتجاهات والرؤى حينما تحاول أن تعزو التأخر والتخلف الإجتماعي الرابض خلفهما الإستبداد إلى السلطات السياسية، فهي المطالبة وفقاًَ لهذا التصور بإحداث التغيير لأنها هي المسئولة عن حالة العطالة وكل الأعطاب والأزمات التي يزخر بها واقعنا الإجتماعي.

هذه الإتجاهات علاوة على إتصافها بحالة من الإتكالية تجعلها تلقي باللائمة على السلطة السياسية التي تقوم هنا بدور الآخر "الأجنبي" وإستغراقها في خمول وإسترخاء لذيذ، لا تقوم بأدنى محاولة لتعرية الذات، وكأن الذات مصونة لا يشوبها ما يشوب السلطة من إستبداد وقمع أو كأن آليات القمع حكراًَ على الفئة المسيطرة في حين أن الإستبداد حالة سيكولوجية تتصف بها الثقافة التي لازلت سائدة والتي لم تخضع حتى الآن لأي معالجة نقدية. فالإستبداد نتاج ثقافي وليس مجرد طارئ سياسي يزول بزوال هذه السلطة أو تلك، وما المصير البائس لتلك الإصلاحات القشرية التي إنطلقت من قرار سياسي إلا أبسط دليل يؤكد فشل كل الحلول الإختزالية، من هنا نجد أن إحداث أي تغيير جذري للواقع الإجتماعي لا يمكن أن يتم إلا إذا سبقته مساعي جادة للتنوير في سبيل زحزحة البنى الفكرية للإستبداد.

وبالتالي يصبح المجتمع مهيأ للتغيير والتنمية المنشودة، شريطة أن لا تعرقل السلطات السياسية هذا النمو فحينئذ ستكون هي المسئولة والمتهمة.

لا شك أن حلقات الإستبداد التي تتفاقم من القاعدة حتى قمة الهرم تختبئ خلف أوجه متباينة لا تربأ عن إقحام الديني والمتعالي والمقدس في مجابهات فكرية ذات طابع جدلي وإشكالي لكن المفارقة أن تلجأ إلى الإضطهاد جماعة هي نفسها تعاني منه، من هنا ندرك الطابع "الحلقي" لبنية الإستبداد، والذي يسمح بإعادة إنتاجه وتوالده بإستمرار حتى وإن إختلفت أشكال السلطة، ولذلك ليس ثمة فرق بين الإضطهاد عند الأكثرية وبينه عند الأقلية، بين إستبداد الفرد وإستبداد الجماعة، يقول أحد الفلاسفة ما معناه: قمع كل الجماعة لشخص واحد مختلف يساوي في بشاعته قمع شخص واحد لجماعة بأكملها، وهذا يعني أن إستبداد الجماعة ضد الفرد هو نفسه إستبداد الفرد ضد الجماعة والذي يأتي على شكل طغيان سلطوي أو ديكتاتورية، وبالتالي تشترك كل أشكال الإضظهاد في ذات الآلية الجهنمية للقمع، أي أنها تحمل نفس الخطاب سواء كان دينياًَ أو سياسياًَ..

وبناء عليه يمكن التأسيس لرؤية وقراءة مغايرة لحدثين إثنين لهما من الدلالة ما يكفي لتعرية الواقع الإستبدادي ومفارقاته:
أولاًَ: الحدث الذي ألمحت إليه في البداية أي تلك المشاكسة الفكرية والتداعيات التي نجمت عنها، فمن نافلة القول أن هذه المشاكسة التي ظهرت على شكل "بيان" قد أثارت موجة من السخط والتذمر والإستباحة لكل من تجرأ في المشاركة فيه أو مساندته، إنها لم تكن فقط بمثابة شطحات أو تأملات أو محاولة للتفكير ولكن بصوت مرتفع بل هي أكثر شططاًَ لتصل حد الإدانة بإقتراف إحدى المحظورات التي تستوجب عقاب الردة، وهذا ما صرح به رجل دين يمثل أحد أبرز وجوه الأصولية الدينية في مجتمعنا حين واجه أحد الخائضين في هذه المعمعة بإرتداده الصريح، ولكم أن تتصورا كيف سيعامل هؤلاء من يختلف معهم فيما لو كانت السلطة بيدهم.

هذا الغضب الهستيري الذي جاء عقب تلك الهرطقات هو حالة طبيعية تتسم بها الأصولية التي لا يمكن أن تعيش إلا في بيئة يغيب عنها التسامح، والمجتمع الذي تسود فيه هذه الأصولية لا يمكن أن يحظى بالتسامح، فلابد لكي يسود التسامح من إشاعة فكرة القبول بالتعددية، والتعددية تستدعي فكرة مسبقة تتيح مقاربة الأشياء مقاربة نسبية، أي أن النسبية هي التي تقود إلى التعددية التي بدونها يغيب التسامح ويحل التعصب والتزمت والتمامية وكل خصائص الفكر الوثوقي الدوغمائي، لا يمكن إذاً تجاوز هذا الواقع المشحون بالإستبداد إلا بعد طي هذه المراحل وإلا فالأحادية هي التي ستشكل كل العلاقات الإجتماعية.

ثانياًَ: الأحداث الساخنة التي جرت في باحة الحرم النبوي في المدينة المنورة، وإستطالاتها في مناطق ومدن أخرى يقطنها مواطنون ينتمون إلى الطائفة الشيعية، وتحديداًَ في القطيف والأحساء، هذه الأحداث علاوة على أنها تمثل إمتداداًَ طبيعياًَ لحالة الغليان الدائمة والمستمرة منذ أكثر من ألف عام، وإضافة إلى أنها كشفت عن واقع مأزوم متصدع بإصطفافات طائفية حادة، فإنها كشفت من جديد بشاعة الذهنية النرجسية الإستئصالية وغياب أي صيغة للتعايش، كما أنها كشفت عن التهميش الذي تتعرض له فئة من المواطنين كان ينبغي أن تتجه الإرادة السياسية منذ زمن بعيد لإتخاذ قرار حاسم بإدماجها داخل إطار وطني جامع عبر المشاركة السياسية الفعالة، وليس بمزيد من الإقصاء والتهميش لكن الأهم أنها كشفت عن "الطبيعة الحلقية" للإستبداد، فالإستبداد الذي يبدأ بقمع حالات فردية شاذة أو مارقة خرجت عن نطاق الطائفة - وليس بالضرورة المذهب- يتسع في هذه الحالة، ولكن دون أن ينتهي، بقمع طائفة بأكملها لها تاريخ عريق وإرتباط وثيق بالأرض. 

التكفير هنا يتحول إلى مروق وإرتداد أو هرطقة هناك، فيما المعاناة تبقى هي نفسها في كلتا الحالتين، والتجاهل والإلغاء هو نفسه طالما تعذرت كل محاولة لفرض الإعتراف، لأن حقيقة ما يجري ببساطة هو عدم حصول أي إعتراف بالآخر وحقه في العيش وفي ممارسة ما يعتقد وما يؤمن به، من هنا يلوح للكثيرين أن هذه الأحداث ينبغي أن لا تمر مرور الكرام، ينبغي عدم تمريرها هكذا ببساطة دون أي محاولة لإستجلاء الدروس والعبر للحيلولة دون تكرارها.

المطلوب بكل وضوح هو التوصل لحل نهائي للمسألة الشيعية ليس بوصفها تمثل الحق الزلال بل لأنها الطرف الأكثر تعرضاًَ للإضطهاد والتهميش ولكن الطموح لا يقف عند هذا الحد بل يجب أن تعمم المطالبة لتشمل كل الجماعات والطوائف بما فيها رعايا الطوائف الأخرى من الأجانب والمقيمين، فبإجراء هذه الخطوة وحسب يصبح الوطن خيمة للجميع.

الدفاع عن هذه الجماعات والفئات المضطهدة ليس دفاعاًَ عنها ذاتها وحسب بل هو دفاع عن الحرية والرأي والتعددية والتعايش وحق الإختلاف وكل المفاهيم التي لا يمكن تحويلها إلى واقع معاش إلا مع وجود مجتمع مدني محايد لا ينحاز أيديولوجياًَ أو دينياًَ، ما نصبو إليه هو أن نتمكن من بناء مجتمع كهذا لا يمايز بين تيار وآخر أو بين مذهب إجتماعي وآخر، هذا هو الهدف الذي يجب أن يشكل هما أقصى، وما عدا ذلك أي كل إعتقاد أو إيمان فهو شأن شخصي بوسع كل مواطن أن يمنح نفسه السعة الكاملة في بلورته وتشكيله.

التحدي الوطني إذن هو أن يعاد فهم المعتقد كشأن خاص لا يختلف كثيراًَ عن أي شأن خاص آخر لا يثير حساسية الحيز العام وليس له أي تأثير سلبي في العلاقات الإجتماعية كالملبس أو الذوق أو غيره من حالات خاصة بالفرد وحده!
 

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع