هل جفت ينابيع مشاعرنا؟

بقلم : مفيد فوزي

النساء يشكين من جفاف معاملة الرجال وكأن ينابيع المشاعر قد جفت‏,‏ والرجال يفتقدون رقة النساء بعد أن أصبح للحب عندهن مسميات أخري‏,‏ ولم يكن مسلسل مهند التركي‏..‏ عبقريا‏,‏ فهو حدوتة عادية لكنها مبتلة بالأحاسيس‏,‏ ومطرزة بالمشاعر وتهز اغصان الهوي الذي اختنق فينا‏,‏ ولم تكن قصة‏Lovestory‏ التي بيعت منها ملايين النسخ ولما صارت فيلما شاهده مليار إنسان عبر العالم‏,‏ بعمل أدبي أثار جدل النقاد‏,‏ بقدر ما كانت حفنة مشاعر تذرف الدمع الحنون‏,‏ ولم تكن تيتانيك الفيلم سوي عمل إخراجي عبقري لغرق سفينة‏,‏ ولكنه كان أبعد من ذلك‏,‏ كان‏(‏ سفينة حب‏)‏ رست في ميناء الشوق واللهفة‏,‏ وهزنا ذلك التشبث الضاري بالمحبوب‏,‏ وعندما عرض في مصر الفيلم الفرنسي لكلود ليلوش‏manandwomen‏ شاهدته عشرات المرات فقد كان الحوار في الفيلم قليلا والصورة هي الباقية في رأسي‏,‏ همسات العيون وعناق الأكف ولهفة الأصابع وشوق الأنفاس والخوف الدامي من الفراق‏..‏ وحين جاءت لحظة فراق هي أحد مفردات قاموس العشق‏,‏ غافلتني دمعة انسابت في سكون فوق خدي‏,‏ دمعة‏,‏ افتقدها اليوم بعد أن داهمتنا سينما القتل والسفك والتمثيل بالجثث‏..

‏ التي سرقت مشاعرنا وذبحت أحاسيسنا من الوريد الي الوريد‏..‏ واذا كان الحرف والنغمة والحظ‏(‏ شهود العصر‏)‏ علي الأزمنة‏,‏ فكتابات هذا الزمن وأغانيه ولوحاته العبثية تشهد أنه عصر يعاني من أنيميا الرومانسية‏..‏ الرومانسية التي أسستها في أفئدتنا أم كلثوم وزرعتها في شرايين قلوبنا فيروز وشاركنا كل قصة حب عشناها عبدالحليم حافظ‏,‏ وتنزهنا في بساتينها مع إحسان عبدالقدوس ويوسف السباعي‏,‏ فقد بكي نساء مصر يوما عندما مات‏(‏ ممدوح‏)‏ في قصة لا تطفئ الشمس‏,‏ وذرف الرجال الدموع عندما احترق كوخ الحب في‏(‏ إني راحلة‏)‏ ليوسف السباعي‏,‏

كان جيلي يهتز شوقا عندما تغني ليلي مراد‏(‏ ياحبيب الروح فين أيامك‏)‏ أو تشدو هدي سلطان‏(‏ إن كنت ناسي أفكرك‏),‏ والظاهرة اللافتة للنظر الآن هي تلك الردة لزمن الأحاسيس والبحث في الشاشات والاذاعات عن الأغاني القديمة وأفلام المشاعر والضحك من القلب‏,‏ إن أدوات العصر تسهم في صنع وجداننا‏,‏ ومنذ أن ظهر الموبايل في أفق حياتنا‏,‏ صرنا أكثر عمليين وبدأ الموبايل في تجريف مشاعرنا‏,‏ لم نعد نكتب رسائل للحبيب بحبر القلب واكتفينا برسائل الموبايل‏(SMS)‏ سرق الزحام وصعوبات الحياة زياراتنا للأحباء في بيوتهم‏,‏ صرنا‏(‏ نهاتفهم‏)‏ بموبايلات تنقل لنا صورهم بعدسات مثبتة في الموبايل واتسعت الهوة بيننا وبين أحبائنا‏,‏ وازدادت الجفوة وصارت الرومانسية في بعض الصور الحياتية رومانسية مشاعرنا التي استهلكت حبر المطابع في ورق الصحف عن زيارة أوباما لمصر ظنا منا أنه‏(‏ حياخد إسرائيل قلمين‏)‏ ويروح‏(‏ يهد المستوطنات‏)‏ ويزيد‏(‏ معونة بلاده لمصر الضعف‏!!).‏

واذا كانت الصحافة هي صوت الزمن‏,‏ فإنه بنظرة واحدة للجرايد الصادرة في أيامنا هذه‏,‏ يلاحظ مدي استخدام كلمات مثل القتل والخنق والذبح ويلاحظ بشاعة جرائم الأرحام‏,‏ حيث يقتل رب البيت زوجته وأولاده وهم نائمون من باب‏(‏ الحب‏)‏ والخوف عليهم من المستقبل المظلم‏!‏ وكانت قمة المأساة في تمحور الحب‏,‏ جريمة قتل سوزان تميم‏..‏ حبا وانتقاما‏!‏

في جيلي‏,‏ كانت النظرة تترجم معاني كثيرة‏,‏ وكانت‏(‏ كلمة‏)‏ تقلب تاريخ امرأة‏,‏ وكانت الرغبة أو الصد برمش العين لا أكثر وكان الهوي‏(‏ غلاب‏).‏

هل انتحرت الرومانسية في ظروف غامضة ولم يعثر علي جثتها وقيدت ضد مجهول؟ هل أصبحت الدموع تعصي أوامر القلوب؟ هل أودعنا اللهفة والأشواق مخازن الغرام؟ هل صار الحب سهلا مثل خلع الضرس بدون ألم؟ هل أصبحت لوعة الحب مثل الفولكلور بلا مؤلف؟ هل كان كامل الشناوي يهذي عندما كتب‏(‏ بعض يمزق بعض‏)‏؟ هل‏(‏ انخلعت‏)‏ قلوبنا من أماكنها؟ هل كان‏(‏ عبدالوهاب‏)‏ يدندن لنفسه وهو يغني‏(‏ جفنه علم الغزل‏)‏؟

أبدا‏,‏ كل هذا كان ارهاصات زمن زراعي اعترف بمشاعر الحب ولوعته وكبريائه‏,‏ كل هذا كان إبحارا في القناة الدمعية لناس ذلك الزمن‏,‏ تحرك دموعهم‏,‏ بدلا من أن تتجمد في المآقي وتتسرب في الجفون‏!‏ كل هذا كان يؤكد آدمية الإنسان قبل أن يصل لمرتبة الحيوانية والهمجية في السلوك والتصرف في زمان ـ ما قبل الموبايل ـ كان انتظار الحبيب لصوت وليفته‏,‏ متعة ولهفة‏,‏ كان للعتاب حلاوته‏,‏ وللصفا بعد الجفا‏,‏ جماله وارتعاشته وكان للجنس احترامه‏.‏

هل يعود للحب دقات القلب ورعشة الاحساس ودغدغة المشاعر؟

أنا أظن ذلك‏,‏ فالناس يصيبها السأم من الجفاف والنجاح بلا طعم‏.‏

ففي داخل الناس حنين يهفو للشجن العذب الرقراق‏,‏ وراقبهم عندما يشاهدون فيلما قديما‏,‏ تئن صدور الناس‏(‏ لهفة‏)‏ للثم الشفاه أو سرقة قبلة علي الخد‏,‏ أو سرحة أصابع بين كف محب‏,‏ وأجزم أن دواوين نزار وقصائد سعاد الصباح مازال لها قارئ من هذا الجيل يتعرف علي فهرس قلبه من خلال أشعارهما‏,‏ لكن‏(‏ خنقة‏)‏ الحياة وأزمتها الاقتصادية الطاحنة‏,‏ تخنق الحب أيضا وتطحنه بتروسها الفتاكة‏.‏

إن‏(‏ نقلة نوعية‏)‏ فيما نقرؤه أو نسمعه أو نراه سيصالحنا علي أنفسنا بعد طول خصام‏,‏ النقلة النوعية ليست بقرار‏,‏ إنما تعبير عن احتياج انساني بردة للزمن الذي منح قلوبنا شهادة صلاحية‏,‏ النقلة النوعية تجيء بانصراف الناس عن صحف تمجد العنف‏,‏ وأغان تغتال الاحساس وأفلام طاخ طوخ‏,‏ سارقة المشاعر العفيفة‏.‏

لقد حرضني علي كتابة هذا المقال‏,‏ ذلك‏(‏ الحزن العام الدامع‏)‏ لناس مصر بكل فئاتهم الاجتماعية والعمرية‏,‏ يوم رحل‏(‏ حفيد الرئيس‏)‏ محمد علاء مبارك‏,‏ انه بعض من أدب الافتقاد الذي لم نفتقده كشعب بعد‏.‏

*نقلاً عن جردية الأهرام

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع